إنَّ من طبيعة البشر والتي خلقهم الله وجبلهم عليها هي حب التواد والتآلف، فالإنسان كما قال ابن خلدون مدني بالطَّبع؛ لذلك نرى البشر دوماً متراصين حول بعضهم البعض يتجاورون ويتزاورون، يحب بعضهم بعضاً، ويألفون بعضهم البعض...
وكذلك المجتمع الدعوي البشري يخضع لمثل هذه الأعراف والقوانين، مجتمع تجد فيه من التآلف قد لا تجده عند غيره، خاصة أنَّه يقوم –غالباً– على العلاقة الرَّبانية والخالية من المصالح الشخصية والدنيوية..
تحدثنا كتب السيرة عن حادث عظيم وقع زمن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم..
حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، سمع جابر بن عبد الله يقول: (كنا في غزاة، قال سفيان: يرون أنَّها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار (ضربه على قفاه) فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فسمع ذلك النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ما بال دعوى الجاهلية! قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((دعوها فإنها منتنة))، فسمع ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول فقال: أوقد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النَّبي صلَّى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدّث النَّاس أنَّ محمَّداً يقتل أصحابه". وقال غير عمرو فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقرّ أنَّك الذّليل ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العزيز ففعل). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والحق أحق أن يتبع... دعوها فإنَّها منتنة... ونتنها فيها ذاتها، وكل ما فيها وكل من فيها فهو منتن يخرج النتن من بين جنباته، دعوها؛ هي العصبية بذاتها، أو هي الحزبية الباطلة، أو هي التجمعات الفاسدة، ذات المستنقعات القذرة، والتي لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر، ولا تحِّق حقاً ولا تبطل باطلا، ناهيك عن أنَّها تأمر بالباطل وتقف في وجه الحق..
إنَّ التآلف الدعوي وهي ما نسميها الأخوة الإسلامية أو الأخوة في الله شيء، والتحالف الأخوي شيء آخر تماماً.
فالأولى فيها: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، نُصرته بالحق، والوقوف بوجهه إن أراد تجبراً أو أراد باطلاً..
والثانية: التَّحالف المقيت الذي يبغضه الله، والذي فيه شيء من هذا النتن العصبي الدخيل على هذا المجتمع.
فالتحالف هو أن تقف مع أخيك باطلاً كان هو عليه أو حقا. تقف معه وتدافع عنه، عرفت الحق أم لم تعرفه، تراه يعصي ويخطئ ويتجاوز، وأنت لازلت تبحث له عن مبررات تخرجه نظيف الصَّفحة طاهرَ السَّريرة، وتدحض الحجة تلو الحجة تترى تدافع عنه، وأنت لا تدري أنه باطل مغموس في باطل، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، سوى التحالف لا تعرف شيئا.
والأدهى من ذلك أن تحالفك هذا سيريك في الآخرين كل شيء باطلا، حقا كان أو غير حق، ولو قرأ آية من القرآن لاتهمته في نيته وسريرته، كيف لا؟ وهو (ربيب) التحالف المقابل.
وكل نفس نمت على السُّوء ترى في غيرها هذا السوء موجوداً، أو تفرضه عليها فرضاً.
كل نفس نمت على السُّوء ترى في غيرها هذا السوء موجوداً، أو تفرضه عليها فرضاً
فإذا وقف أحدهم بوجه هذا الشاب اليافع صاحب التحالف ونصحه بأنَّه على خطأ، وأن عليه أن يتقي الله، فبالتأكيد لن يأخذ بالنصيحة، وسرعان ما يقول له: أنت تقف معهم، إذن أنت منهم. هذا هو النتن فيه، قد تربع في قلبه، واسودت بصائر الحق أمام ناظريه، فلا يريد أن يراها، وهو أصلا لا يقوى أن يراها، لأنه دون تحالفه شعر بأنَّه لا شيء.
فرق كبير بين الأخوة القائمة على أساس أنَّ الحق فوق الرِّجال، وبين تحالف يرى أنَّ الحق معه يدور حيث دار.
فرق كبير بين أنَّك إذا أحببت شخصاً قدَّمت له النُّصح، ونهيته عن معصيته من باب حرصك على سلامة قلبه، وبين تحالف يجعلك تدافع وتنافح عنه في الحق والباطل، في الدِّين والدُّنيا.
فرق كبير بين أنَّك إذا أحببت شخصاً قدَّمت له النُّصح، ونهيته عن معصيته من باب حرصك على سلامة قلبه، وبين تحالف يجعلك تدافع وتنافح عنه في الحق والباطل، في الدِّين والدُّنيا.
لقد رأينا من يبرِّر لأخيه رِباه، وقلَّة التزامه، وكذبه، وسوء خلقه، ومخالفاته وعدم طاعته، كل ذلك بحجج واهية، ومبررات سقيمة لا تقنع قائلها، عداك عن سامعها...
"و أيم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطع محمَّد يدها" أخرجه البخاري.
هذا منهج التآلف.
وما أنا إلاَّ من غزيّةُ إن غَوَتْ ***** غويتُ وإن ترْشُدْ غزيةُ أَرْشُدُ
هذا هو منهج التَّحالف.