هاجرت من وطنها وأدَّت دورها ,,
إنَّ الهجرة من مكان إلى آخر وجدت منذ وجود الإنسان على هذه الأرض، ولها أسباب كثيرة؛ منها طلب الرِّزق من أجل العيش، ومنها طلب العلم، ومنها الهروب من الكوارث الطبيعية من أجل البقاء، ومنها الفرار من الحروب بحثاً عن الأمان، ومنها طلب السِّياحة .
ومن أعظم أنواع الهجرة، هي الهجرة لأجل الدين، ذلك لأنَّ الدِّين أغلى ما يملك الإنسان، فإذا سلم الدين سلم كلّ شيء، وإذا ضاع الدين ضاع كل شيء.
ومع الهجرة تظهر تحديات كثيرة؛ منها : ضياع الهوية ومعالم الشخصية الإسلامية، وذلك بتغير اللسان والتفكير والعادات والمظهر، فيتنازل شيئا فشيئا عن أمور دينه إلى أن يسهل عليه التنازل عمَّا هو من أصل دينه، ومنها مشكلات الأسرة من حيث التَّعليمُ والتَّربيةُ والرِّعاية، و هذه التحديات يتعاظم خطرها أمام الأبناء، لذا يكون الدور المطلوب من الوالدين دوراً مكثفاً من أجل حماية الأبناء من تحديات الهجرة .
سأضع بين يديك نموذجاً راقياً لصحابية جليلة، لم تعش هجرة واحدة، بل هي عاشت وقائع هجرتين، ومع ذلك كانت قدوة طيِّبة في احتساب الأجر، ومساندة الزوج، و تربية الأبناء، هي :
أسماء بنت عميس رضي الله عنها
صاحبة الهجرتين، تكنَّى أم عبد الله، إحدى الصَّحابيات السبَّاقات إلى ميادين العطاء و البذل، وطلب الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى، أسلمت رضي الله عنها قديماً، قبل دخول دار الأرقم، وبايعت.
أسماء رضي الله عنها هي زوجة الصَّحابي البطل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه – صاحب الجناحين كما يلقبه رسول الله – صلَّى الله عليه وسلم - ، فقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا أراد أن يسلّم على ولدها عبدالله بن جعفر قال :
(( السَّلام عليك يا ابن ذي الجناحين ))
كانت من المهاجرات الأوَّل الى أرض الحبشة مع زوجها جعفر – رضي الله عنه - هاجرت الى أرض نائية، وإلى بيئة غريبة عليها، فقد ذاقت هناك مرارة الغربة القاسية ولوعتها، ومع ذلك كانت رضي الله عنها الصَّابرة المحتسبة غربتها وبعدها عن الوطن لله سبحانه وتعالى .
في أرض الغربة ولدت لجعفر الأبناء، وكان ولدها البكر عبد الله شبيهاً بوالده، وكان جعفر- رضي الله عنه - شبيهاً برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم – فقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لجعفر- رضي الله عنه - :
(( أشبهت خلقي و خلقي ))
ولمَّا أمر النَّبي عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام المهاجرين بالتوجه إلى المدينة، كادت أسماء – رضي الله عنها - تطير من الفرح، فها هو الحلم قد تحقَّق، وصار للمسلمين دولتهم، فسيكونون جنوداً في جيش الإسلام .
خرجت أسماء - رضي الله عنها - مع الرَّكب في هجرته الثانية من أرض الحبشة إلى المدينة ، وما أن وصل الرَّكب حتى سمع المسلمون بسقوط خيبر وانتصار المسلمين، ومعه كان التكبير فرحاً بعودة مهاجري الحبشة، حتى يضم الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – جعفر - رضي الله عنه- ويقبِّل جبهته قائلا :
(( والله ما أدري بأيّهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر )).
ولمَّا توجَّه جيش المسلمين إلى الشَّام، كان زوجها من بين الأمراء الثلاث في مؤتة، جاهد رضي الله عنه، ثم فاز بالشهادة.
ويأتي النَّبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى بيت أسماء – رضي الله عنها، يسأل عن الصِّبيان فيضمّهم، ويشمهم، ويمسح على رؤوسهم، فتقول له أسماء : أبلغك عن جعفر و أصحابه شيء؟ قال : ((نعم، أصيبوا اليوم)) .
ولم يكن منها إلاَّ أن جفَّفت دموعها، وتصبَّرت واحتسبت عند الله الأجر العظيم، بل تمنت أن تكون مع زوجها لتنال الشهادة
وتنكب الأم الصَّالحة على تربية أطفالها، وتنشئتهم على الاقتداء بسيرة أبيهم الشَّهيد الطيَّار .
سيرة أسماء رضي الله عنها كبيرة، اقتطفنا منها اليسير لنضعه أمامنا أنموذجاً عمليا في الصَّبر على الشَّدائد، وفي مساندة الزَّوج المجاهد، وفي تربية الأبناء وفق ما يرضي رب العباد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع للاستزادة :
1. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
2. زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية
3. السيرة النبوية لابن هشام