الحوار فنٌ بديعٌ قلَّ متقنوه، وله آدابه وطرقه وشروطه، كي يكون حواراً فاعلاً منتجاً، ولو أردنا التطرّق له، فالكلام يطول ويطول كثيراً.
ولكنَّني أحببت أن نتكلم عن ثابتةٍ من ثوابت الحوار، والتي بغيرها لا يكون له أيّ فائدة أو معنى، بل على العكس سيعود على المتحاورين بالضَّرر الكبير.
سأتكلم الآن عن تقبّل الخلاف مع الآخر، وعدم تعارض ذلك مع حبِّي واحترامي له.
وبدايةً أقول: إنَّ التَّنوع وعدم التطابق سنة إلهية فَطَر الله عليها الكون كله بما فيهم البشر، فقد قال سبحانه:
{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم }
والبشر يختلفون ويتمايزون في كلِّ شيء، أشكالهم وقدراتهم، وميولهم وأهوائهم، وطبيعتهم، فمن الطَّبيعي والفطري أن يختلفوا في أفكارهم وتصوراتهم، وكل ما يتعدَّى حدود الثوابت الفطرية التي فطر الله عليها كل البشر، وحتَّى هذه الثوابت فإنَّنا نبذل الجهد الكبير، والأسلوب البديع في إظهارها عند البعض، بعد أن عفا عليها الزَّمان، وتراكم فوقها غبار الجهل والضَّلال والعناد.
فما بال بعضنا ينكر هذا الخلاف؟! ولا يرضى إلاَّ أن يكون النَّاس كلُّهم على هيئة رجل واحد، وكأنَّهم مطبوعون في قالب واحد، قالبه هو!!
ويعتبر كلّ من يخالفه الرَّأي عدوّه اللَّدود؟! قد أقام عليه الحرب التي يفترض مباشرةً أنَّه لا بدَّ عليه أن يخرج منتصراً منها ويقتص لنفسه، فالثقة بالنفس والكرامة كما يفهمها هو تقتضي ذلك، والمؤلم حقيقةً أن يحدثَ هذا عند من كانت تجمعهم قبل ذلك الخلاف علاقة وديّة، أو قرابة، أو نسب، أو أخوة، ولربَّما زواج!!
ولماذا لا يكون لنا في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والسَّلف الصالح أسوة حسنة؟!
فلم يذكر في السيرة أنَّ نبيّنا محمَّداً عليه أفضل الصَّلاة وأتم التسليم قد عادى مخالفاً، وكم من قصص الأعراب معه تبيّن حلمه وسعة صدره وحواره الرَّاقي صلوات ربِّي وسلامه عليه.
وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنَّ أحد طلابه كتب كتاباً في اختلاف الأئمَّة وسمَّاه كتاب الاختلاف، ودفع به للإمام أحمد كي يلقي عليه نظرة ويبدي فيه رأيه، فقال له الإمام أحمد : لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمِّه كتاب السَّعة، دليل على سعة هذا الدِّين، واتساع صدره لآراء مجتهديه ورؤاهم المختلفة.
ومقولة الإمام الشَّافعي المشهورة: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصَّواب).
هذا حال أهل العلم والصلاح، فلماذا لا يكون حالنا كحالهم؟! لماذا لا نتقبل خلافنا مع الآخر؟! ولا يؤثر هذا الخلاف على علاقة الود التي بيننا، إيماناً منَّا أنَّ الخلاف فطرة إلهية.
علينا أن نتبع أسلوب الحوار الرَّاقي بالحجَّة والبرهان والهدوء والنيَّة الصَّادقة أن يكون هدفنا الوصول للحق وليس إثبات الرَّأي، وأن نرتضي الحق وإن كان من عند الآخر.
ولم لا؟! فالمسلم يسعى للحق ولو على نفسه، لماذا نعتبر أنفسنا على علمٍ يقين؟! أليس فوق كلّ ذي علمٍ عليم؟! وإن لم يُقنع أحدنا الآخر، يتمسك كل منا برأيه ويحترم الرَّأي الآخر وصاحبه، هذا هو سلوك المسلم الناضج الواعي.
هذا إن كنَّا نحاور من هم على مستوانا من العلم والقدر، وإن كنا نحاور لندعو ونصلح، فعلينا استخدام الأسلوب الحسن، وتفهم الآخر، وإرادة الخير له، ولهذا الأثر الأكبر في تحقيق النتيجة المطلوبة، فقد فتح الإسلام العالم بالحب، وقد قالها الإمام حسن البنا - رحمه الله - : (سنقاتل الناس بالحب).
ولنحرص على استخدام الكلمات الرَّقيقة الرَّاقية التي تليق بنا مثل: (من وجهة نظري، أعتقد، في ظني، هل توافقني في...؟).
وليسع قلبنا كلّ البشر، وليسع عقلنا مختلف الآراء، ولا ننس أنَّ الحق ليس حكراً على أحد، وأننا لسنا على صواب لمجرَّد أننا نحن!
وأختم بأبيات شعرٍ جميله جداً:
نعم لا بد من حبٍ لتملأ كونَنَا الأنــــــوار ليغمُرنا عبيرُ الوُد، تبسُـــم حولنا الأقدار
لنفتح صفحةً كُتبتْ بنورِ القلبِ والإيثـــار سنُرسي مَنْهجاً يُذكي انفتاحاً بيننا وحوار
أليس نبينا المختار حـــــــاور من تحداه وبالإقنـــــاع أرشـــده بحـــبٍ نحو مــولاه
فلن ننساك قدوتنا ولا المنهاج ننسـاه سنجعل هديك الرَّاقي دليلاً للعلا وشعار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع للاستزادة :
- أفكار صغيرة لحياة كبيرة ، كريم الشاذلي
- آداب الحوار وقواعد الخلاف ، د. عمر بن عبد الله كامل