على خطى نبي الله نوح عليه السَّلام

الرئيسية » بصائر قرآنية » على خطى نبي الله نوح عليه السَّلام
alt

على مدى الأيام والسنين تتنوَّع أفكار النَّاس، وتختلف إلى درجة التناحر لإثبات فكرة أو الانتصار لرأي، حتَّى لو تطلَّب الأمر حرباً لنشر ثقافة معيَّنة وفرضها على النَّاس، وصاحب الحق والأفكار الجيّدة دائماً محارب، والمسلمون في هذه الأيام يواجهون حرباً ثقافية شعواء، تطال الثوابت وتحاول أن تخلط على المسلمين أمورهم، حتَّى يصبح الباطلُ حقّاً والحقَّ باطلاً، وهذه من مخطَّطات الغرب ضدنا، إلاَّ أنَّه بالرُّجوع إلى القرآن الكريم وسنن الأنبياء من قبل، نجدهم قد واجهوا تلك الحرب إلى أنَّ نصرهم الله بفضل تمسكهم بالثَّوابت وإرساءها وتبليغها للنَّاس، وإظهار كلمة الله على أتباع الشَّيطان وتدمير أصنامهم، ورفع قيم الولاء والبراء.

ومن القصص القرآني الذي يحمل العديد من المفاهيم التي يحتاجها الدَّاعية والمدعو؛ هي قصة نبي الله نوح الذي أرسله الله لإرساء قيم التَّوحيد في الأرض مجدّدًا، حيث كان نوح عليه السَّلام أوَّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وذلك بعدما تحوَّلوا إلى عبادة الأصنام، لأنَّه كما ورد في ((صحيح البخاري)) عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلّها على التَّوحيد، إلاَّ أنَّه بمرور الأيام والسِّنين اختلط على النَّاس الثّوابت، ولم يعودوا على كلمة التَّوحيد، بعد أن عبدوا أناساً منهم ذكرهم الله تعالى بقوله: { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. [نوح:23]

وقد لبث نبي الله نوح في قومه زمناً طويلاً قارب الألف عام، ورغم أنَّه لم يؤمن برسالته إلاَّ القليل، إلاَّ أنَّ نبي الله نوح ظلَّ يحذِّر قومَه من العذاب الأليم، ويبيِّن لهم طريق النَّجاة؛ وهو عبادة الله وحده وعدم الإشراك به شيئاً، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ*   أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ  للَّهَ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ }. [هود:25-26].

وقال تعالى: {قَالَ يا قَوْمِ إني لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى  إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. [نوح: 2-4 ].
إلاَّ أنَّ قومه رفضوا الاستجابة له، ولم يخشوا إنذار الله له، وأنكروا عليه أن يكون نبيًا لهم قال سبحانه: { فَقَالَ للْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـاذِبِينَ}. [هود: 27 ]واستمر نوح عليه السَّلام في دعوته، محاولاً إقناع قومه بأسلوب هيِّن ليِّن، إلاَّ أنَّهم لم يتأثروا واستكبروا وزادوا في عنادهم، وقالوا : { يا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ *  قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.[نوح: 32-34 ].

إلى أن ضاق بهم ذرعًا فلجأ إلى ربه، مستغيثاً به مما يلاقي من قومه: { قَالَ رَبّ إِنّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً *  فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَـابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً *  ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهَـاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً *  فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً}. [نوح: 5-12 ].
إلا أن عنادهم واستكبارهم دفع نوح إلى الدعاء عليهم بعد أن علم من الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من آمن فدعا عليهم بأن لا يترك الله على الأرض منهم أحد، قال تعالى على لسان نوح: { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}.[نوح: 26-27 ].

واستجاب الله  لدعاء نوح، وأراد سبحانه قبل أن يهلك القوم، أن يهيئ له وللمؤمنين أسباب النجاة، فأمره عز وجل، أن يصنع السفينة، وبدأ قومه يستهزؤون به، بأنه قد تحول من داع إلى الله، إلى نجار، قال سبحانه: { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَـاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ*  وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ *  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}.[هود: 37-39 ].
وانتهى نوح عليه السَّلام، من صنع السفينة، وظهرت علامات بدء العذاب، وهي تفجر الماء من الأرض، فأمر الله عزَّ وجل نوحاً أن يجمع من كل صنف من الأحياء والحيوانات زوجين، ليحملهما معه في السَّفينة، قال الله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا حْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ*  وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.[هود: 40-41 ].

وأرسل الله عزَّ وجل بعد ذلك بقدرته على كلِّ شيء، من السَّماء مطراً غزيراً لم تعهد الأرض قبله، وأمر الأرض بأن تتفجر فيها المياه، فاجتمع ماء السَّماء وماء الأرض، ليحصل جرَّاء ذلك الطُّوفان العظيم، الذي قدَّره الله لهلاك الكافرين، والسَّفينة الصغيرة تسير وسط هذه الأمواج المتلاطمة، بحفظ الله عزَّ وجل ورعايته،  وفي وسط تلك الأمواج المتلاطمة، تحرَّكت عاطفة الأبوَّة عند نوح عليه السَّلام، وتذكَّر ولده، لأنَّه كان من الكافرين بدعوة أبيه، فناداه الأب، ليركب معه في السَّفينة، لينجوا من الغرق، ولكن ظلمة الكفر طمست على بصيرته، وأصرَّ على عصيانه، وظنَّ أنَّه سيلجأ إلى جبل مرتفع، ولن يصل الماء إليه، قال سبحانه: { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ *  قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.]هود: 42-43 [.
وبذلك جاءت نهاية هؤلاء الكافرين، الذين لم يستجيبوا لأمر نبيهم، بل فضلوا الخضوع للأصنام، من الخضوع لرب العباد.


أصنام العصر الحديث

لا شكَّ أنَّ الهدف الأوَّل من رسالة نبي الله نوح إلى هؤلاء القوم هو القضاء على الشّرك الذي انتشر بينهم بعد عبادتهم للأصنام التي صنعوها بأيديهم، وهو الذَّنب الخطير الذي يودي بصاحبه إلى النَّار، ولذلك أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء للقضاء عليه ونشر التوحيد، لأنَّ عاقبة الشرك وخيمة، والله سبحانه وتعالى يغار على دينه، وقد يغفر الله كل ذنب من الإنسان إلاَّ الشرك، قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}.[النساء: 48 ].

وفي عصرنا هذا لا يوجد عبادة للأصنام بمفهومها القديم، إلاَّ أنَّ هناك شركاً وعبادةً لأصنام أخرى حديثة، فنجد عبادة المال وعبادة الهوى، وعبادة الأفكار المستحدثة، والتي دائماً وأبداً يلقي لنا الغرب بها لتفسيخ عقيدتنا الإسلامية، ويقيننا الدائم بأنَّ الإسلام نظامٌ شامل كامل يشمل مظاهر الحياة جميعها، فتجد مفاهيم غريبة على الأمَّة؛ كالاشتراكية والقومية العربية والوطنية والمواطنة والعلمانية والوجودية، وما إلى ذلك من أفكار غريبة تحاول أن تضل المسلمين عن هدفهم الأساسي، وغايتهم الأساسية من وجودهم في الأرض، ولذلك تجد في عصرنا مَنْ يحاول بأفكار هدامة أن يؤثر على الثوابت عند المسلمين، ويضربهم في صميم عقيدتهم لعبادة أفكار واهية يحاول الغرب من خلال تضليل عموم المسلمين، ولذلك ليس غريبا أن تجد في زماننا من يعبد دولة ويسبِّح بحمدها، لأنَّها أصحبت ولية نعمته، بعد أن شكلته بأفكارها، أو تجد من يعبد المال، أو يعبد امرأة، أو يعبد شيطانه، فالفراغُ الذي يوجد به المسلمون الآن جعلهم أشتاتاً وغنماً قاصية تتصارع عليها الذِّئاب من كل جانب، ولذلك على الدُّعاة أن يبذلوا مجهوداً كبيراً، ولا ييأسوا مثلما ظلَّ نبي الله نوح يدعو قومه مئات الأعوام لإرساء قيمة التَّوحيد، وتحقيق الغاية التي من أجلها أنشئ الإنسان على الأرض، لإنقاذ النَّاس من الخضوع لهذه الأصنام العصرية، والتي تعدُّ نوعاً من أنواع الشرك بالله.

 

تحقيق الولاء والبراء
ولأنَّ قصة نبي الله نوح تحمل العديد الإشارات الرَّائعة، فإنَّها أيضاً أوضحت عقيدة الولاء والبراء كأساس من أساسيات التَّوحيد، فرغم أنَّ عاطفة الأبوة تحرَّكت لدى نوح عندما خاف على ولده من مصير الكافرين، فنادى على ربّه أنَّ نوح ابنه فأجابه الله تعالى بأنَّه كافر، فتبرأ نوح منه لأنَّ عقيدة البراء من الكفر والكفار من أساسيات التوحيد ، فقال الله تعالى: { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَـاكِمِينَ*  قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ *  قَالَ رَبّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مّنَ الْخَـاسِرِينَ}.[هود: 45-47 ]

ولذلك يجب علينا أن ننتبَّه إلى قضية الولاء والبراء، ومسألة الحب في الله والبغض في الله، فالمسلم في حياته، قد يبتلى بقومه أو أصدقائه أو حتى أهله، وقد يكون هو مسلماً، وأحد هؤلاء من الكفار، فماذا يكون موقفه وما الواجب عليه ؟

لقد بيَّن الله عزَّ وجل، المنهج واضحاً، في قصة نوح عليه السَّلام، لكل مسلم، وهو أن لا تأخذه العاطفة، أو يجرّه الشفقة، أيّاً كان ذلك القريب، وإن الرَّابطة هي رابطة العقيدة، وغيرها من الرَّوابط لا بدَّ تقطع، وكما يقال دائماً : ( ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}

ها هو شهر رمضان الفضيل قد انقضت أيامه ورحلت عنّا لياليه المباركات التي كانت مليئة …