الإيمان بالله.. إذ يصنع الرجال ويهون الصعاب
لا شكَّ أنَّ الإيمان وحده هو صانع العجائب، و هو الذي يهيِّئ النُّفوس لتقبل المبادئ الخيِّرة مهما يكن وراءها من تكاليف وواجبات وتضحيات، وهو العنصر الوحيد الذي يغيِّر النُّفوس تغييراً تاماً، وينشئها خَلْقاً آخرَ، ويصبُّها في قالب جديد، فيغيِّر أهدافها وطرائقها ووجهتها وأذواقها، ويعطيها القدرة على تحمّل الصِّعاب ابتغاءَ مرضاةِ الله، وطمعاً في جنَّته، ورغبةً في الابتعاد عن ناره.
ويسوق إلينا القرآنُ الكريم العديدَ من قصص السَّابقين الذين استقر الإيمان في قلوبهم، فحوَّلهم إلى أشخاص أصحاب همَّة عالية، ونفس رخيصة في سبيل الله ودعوته، محقِّقين بذلك الآية الكريمة: { إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم }. [ التوبة:111]
الإيمان هو العنصر الوحيد الذي يغيِّر النُّفوس تغييراً تاماً، وينشئها خَلْقاً آخرَ، ويصبُّها في قالب جديد، فيغيِّر أهدافها وطرائقها ووجهتها وأذواقها، ويعطيها القدرة على تحمّل الصِّعاب ابتغاءَ مرضاةِ الله، وطمعاً في جنَّته، ورغبةً في الابتعاد عن ناره.
قصة أصحاب الأخدود
وتتجلَّى تلك الصِّفات في قصة أصحاب الأخدود، التي رواها لنا القرآن الكريم؛ حيث يأخذ المؤمن منها قدوةً له، وعبرةً وزاداً على الطريق، يتقوَّى بالإيمان، ويصبر على الشَّدائد والصِّعاب، ففي تلك القصة تتجلَّى معالم الثبات، ويظهر معدن المؤمنين الصَّادقين، الذي ضحوا بأرواحهم لتحقيق كلمة التوحيد، وتبيّن كيف أنَّ القلوب حين تمتلئ بالإيمان تهون عليها كلّ الصعاب، وتتحوّل المخاطر إلى لذائذ، وحينما يتعمَّق الإيمان يصنع رجالاً وإن كانوا صغاراً في السن، يخافهم ويهابهم الملوك والظَّالمون.
روى الإمامُ أحمد في ((مسنده)) : حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى عن صُهيب الرُّومي أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلمَّا كبر السَّاحر قال للملك: إنَّي قد كبر سنِّي وحضر أجلي، فادفع إليّ غلاماً لأعلمه السِّحر، فدفع إليه غلاماً كان يعلمه السِّحر، وكان بين السَّاحر وبين الملك راهبٌ، فأتى الغلام على الرَّاهب، فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى السَّاحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الرَّاهب، فقال: إذا أراد السَّاحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني السَّاحر.
قال: ( فبينما ذات يوم، إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة، قد حبست النَّاس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم، أمر الراهب أحب إلى اللّه، أم أمر الساحر؟ قال: فأخذ حجراً، فقال: اللَّهم إن كان أمر الرَّاهب أحبَّ إليك وأرضى من أمر السَّاحر فاقتل هذه الدابة حتَّى يجوز النَّاس، ورماها فقتلها، ومضى النَّاس، فأخبر الرَّاهب بذلك، فقال: أي بني، أنت أفضل مني، وإنَّك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس، فعمي، فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ههنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنَّما يشفي اللّه عزَّ وجلَّ، فإن آمنت به دعوت اللّه فشفاك، فآمن فدعا اللّه فشفاه، ثُمَّ أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال الملك: ( يا فلان من ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربِّي؟ فقال: أنا! قال: لا، ربِّي وربك اللّه، قال: ولك ربٌ غيري؟ قال: نعم، ربي وربك اللّه، فلم يزل يعذِّبه حتَّى دلَّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحداً، إنَّما يشفي اللّه عزَّ وجلَّ. قال: أنا؟ قال: لا، قال: أولك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربك اللّه، فأخذه أيضاً بالعذاب، فلم يزل به حتَّى دلَّ على الرَّاهب، فأتى بالرَّاهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتَّى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلاَّ فدهدهوه، فذهبوا به، فلمَّا علوا به الجبل قال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتَّى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللّه تعالى، فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه، وإلاَّ فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللَّهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون.
وجاء الغلام حتَّى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللّه تعالى، ثُمَّ قال للملك: إنَّك لست بقاتلي حتَّى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلاَّ فإنَّك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو، قال: تجمع النَّاس في صعيد واحد، ثُمَّ تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثُمَّ قل: باسم اللّه ربِّ الغلام، فإنَّك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السَّهم في كبد قوسه، ثُمَّ رماه وقال: باسم اللّه رب الغلام، فوقع السَّهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السَّهم، ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد واللّهكالجبال.قد آمن النَّاس كلُّهم، فأمر بأفواه السكك فخدَّت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: مَنْ رجع عن دينه فدعوه، وإلاَّ فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النَّار، فقال الصَّبي: اصبري يا أُماه، فإنَّك على الحق).
إيمانٌ ثبات كالجبال ..
إيمانٌ قوي تعمَّق في القلوب، فلا تؤثر فيه المخاوف، وتهون أمامه الدُّنيا وتصبح صاغرة وتسمو الرُّوح، وتعشق النَّفس الشَّهادة، وتعيش في سبيل الله والموت دونه، وتقدم النفس والمال رخيصة أمام رضا الله للفوز بجنته، فهذا الغلام الصَّغير الذي تحوَّل إلى رجل بطل رغم صغر سنه، يسجّلُ أعظم قصة تضحية في التَّاريخ، فيبتلى ويعرض للقتل مرارًا، بل يذهب به إلى القتل بنفسه، لقد تحوَّل إلى داعية إلى الله، فهم الرِّسالة واستقر في قلبه الإيمان، وامتلأ به حتَّى فاض على كلِّ النَّاس، فلم يصبح له همٌّ إلاَّ إصلاح النَّاس وهدايتهم إلى التَّوحيد، وهكذا الدَّاعية يفيضُ دائماً على كل من حوله، ويبلِّغ رسالة ربّه، ويسعى إلى نشر التَّوحيد في الأرض حتَّى لو جاد بنفسه.
خيار الفطرة السَّليمة ..
ملمح آخر كبيرٌ تشيرُ إليه تلك القصة؛ وهو كيف أنَّ الفطرة السّويَّة للإنسان تختار دائماً نورَ وفيضَ الرَّحمن، ولا يؤثِّر فيها كلام الشَّيطان وأوليائه من سحر وأفعال شر، فهذا الغلامُ رغم حداثة عقله وعدم خبرته كان كلامُ الرَّاهب أقربَ إلى قلبه، واستقر فيه وتشكل عليه، رافضاً كلام السَّاحر وكفره، وهذا دافعٌ للدُّعاة أن يؤمنوا تماماً أنَّ كلام أولياء الرَّحمن نور في النَّفس وراحة في القلب، والنصر دائماً لكلمة الحق، وإن ظهر أولياءُ الشَّيطان عليهم برهة من الزَّمن.
ثواب الصَّبر على البلاء ..
عظم البلاء أيضاً والصَّبر عليه، له ثوابٌ عظيم عند الله، فكما أخبرنا الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ كلَّ إنسان يبتلى على قدر دينه، ولكن كيف يكون الصَّبر على هذا البلاء، ففي القصة يوقف الرَّجل فيبدأ بالنَّشر من مفرق رأسه حتَّى يقع شقاه ما يردّه ذلك عن دينه، ويقذف النَّاس في النيران، والأم تأخذ برضيعها، وتلقي بنفسها في النار، فأيُّ إيمانٍ بلغ بهؤلاء حتَّى صبروا هذا الصَّبر العظيم، فأين هؤلاء الذين يشق عليهم حتى المجيء للمسجد للصَّلاة مع النَّاس بضع دقائق، كما تظهر القصة كيف كان يبتلى النَّاس وكيف أوذوا في جنب الله، والإنسان منَّا يؤمر بأوامر سهلة ويسيرة على النَّفس، ومع ذلك تثقل عليه العبادة ويصعب عليه أداؤها، وهؤلاء يقتلون ويحرّقون أحياء، بل ينشرون بالمنشار حتى يموتوا وهو سهل عليهم، لأنَّه قالوا: ربنا الله، ونحن لازلنا نصارع أنفسنا لتلبية أمر الله بالاستيقاظ وصلاة الفجر.
هل من قدوة لشباب اليوم ؟
وتشير القصة أيضاً إلى أمر ذي أهمية بالغة؛ وهو حال الأطفال والشباب اليوم وما الذي يشغل بالهم، ففي قصة أصحاب الأخدود ضحَّى هذا الغلام الصَّغير بنفسه، وهي أغلى ما يملكه الإنسان، لكي يعبد الله وحده لا شريك له، فما هي اهتمامات الأطفال أو الشباب اليوم غير متابعة مبارايات الكرة، أو الأغاني، أو آخر ما جادت به السينما، وفتياتنا وآخر ابتكارات الموضة والأزياء، ومستحضرات التَّجميل وخلافه.