الصِّراع بين الحق والباطل أبديٌّ مادامت السَّماوات والأرض، ورسالة الدعاة والمصلحون ستظل دهوراً ودهوراً؛ هي العمل لنصرة الحق وإظهاره، وإعلاء كلمة الله تعالى، كما أنَّ المولى عزَّ وجل يقيّض لهذا الدِّين وهذه الرِّسالة دائماً رجالا يتصدّون للباطل وأعوانه، وينتصرون للحق، حتَّى وإن كلَّفهم ذلك أغلى ما يملكون من نفس أو مال.
والشَّواهد كثيرة في ذلك، إلاَّ أنَّ قصة مؤمن آل ياسين التي رواها القرآن الكريم لتربِّي في الإنسان قيمة الدِّفاع عن الحق، حتِّى وإن كان الدَّاعية بشكل خاص، أو المؤمن بشكل عام مجهولاً لا يُعرف عنه النَّاس شيئاً، إلاَّ أنَّ مَنْ يصدح بكلمة الحق في وجه الظَّالمين تجعله مخلَّداً، وإن فنيت حياته، كما حدث مع مؤمن آل ياسين، الذي صدح بالحق فخلَّد الله سبحانه وتعالى قصته في القرآن الكريم تتلى إلى يوم القيامة، كنموذج لكلِّ مسلم على الانتصار للحق وإظهار كلمة الله على أولياء الشيطان.
وتبدأ حكاية مؤمن آل ياسين بقصة تلك القرية التي بعث الله جلَّ وعلا إليها رسلاً، قال تعالى: {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون* إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرَّحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين}،] يس :13-17[.
فلقد أرسل الله رسوليه إلى تلك القرية لإقامة الحجَّة عليهم وتوصيل الرسالة لهم، فأرسل الله إليهم اثنين، فكذَّب أهل القرية الرَّسولين أشد تكذيب، فعزز الله جل وعلا أولئك برسولٍ ثالث، وقال الرُّسل جميعًا: { إنا إليكم مرسلون}، مؤكِّدين تلك الرِّسالة أن بعثهم الله لإنقاذ النَّاس، فما كان جواب أصحاب القرية إلاَّ أن كذَّبوهم بحجة أنهم بشرًا مثلهم، فبيَّن الله عزَت وجل وظيفة رجل من المؤمنين آمن بما جاءت به الرُّسل فجاء مذكّراً لهم قال سبحانه: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين}.] يس : 20[.
وتعبير {أقصى المدينة} – كما يقول المفسرون- إشارة لأن يعلم الناس أنه ليس من أغنياء الناس بل من فقرائهم، وليس ممن كلامه يرفض كأصحاب الجاه، لأن عادة الناس في تلك الأزمنة أن علية القوم يسكنون وسط المدن وأن من هم دونهم يسكنون الأطراف والأقصى من المدينة، إلاَّ أن هذا الداعية؛ رغم كل هذه الصفات ورغم أنه مجهولا في قومه إلا يقول كلمة الحق، ولذلك قرر الداعية صاحب القصة أن يتحمل المشقة والمخاطر وأصر على المضي إلى القوم يطالبهم بأن يتبعوا المرسلين لأنه يعلم أن اتباع طريق الله تعالى هو السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وبعد أن أمرهم باتِّباع المرسلين، يبين القرآن أنه علل قوله هذا قائلا :
{اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون} ]يس:21[، أي أنه أوضح أن قضية الهداية ومعرفة طريق الله هو الطريق الصحيح لعبادة الله تعالى ولذلك أتبعها القرآن الكريم بالقول: {ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} ]يس:22[، أي : إنَّ من هداه الله إلى الطَّريق الصَّحيح، فهو كذلك على الفطرة التي فطر الناس عليها، وهذه هي دعوة الرُّسل من أولهم إلى آخرهم، حيث إنَّ دعوتهم ودعوة أتباعهم إلى التَّوحيد الخالص، ولذلك اقتدى مؤمن آل ياسين بالرّسل وبطريقهم وبدعوتهم في توحيد الله وردّ النَّاس عن الشِّرك، وأن من يعلم تلك الأمور ولا يبلغها يكون ضالاً مضّلاً، قال جلَّ وعلا مخبراً عن قوله: {إنِّي إذًا لفي ضلال مبين} يعني: إن لم أعود إلى الفطرة وأؤمن بالأنبياء وبرسالتهم، فإنَّي على ضلال مبين.
وكما هي سنن الله في الأرض أن يواجه الأنبياء والمصلحون والدعاة الابتلاءات ويصرّون على طريق الحق، رغم أنَّه مليء بالأشواك، ويضحون بأنفسهم وأموالهم ، فلقد قتل هؤلاء القوم هذا المؤمن الذي جاهد في الله حق جهاده وقال كلمة الحق عند السلطان الجائر، وصدح بكلمة الإيمان ودعا الناس إلى ترك عبادة الشيطان والمضي في طريق الإيمان، لم يسمعوه عندما قال لهم : {إني آمنت بربكم فاسمعون}.
ولكنَّهم بادروا إلى قتله، ولكن كان الثَّواب الجزيل العظيم لمن يضحِّي بنفسه في سبيل الله وإعلاء دينه، فتلقفته الملائكة بقولهم: {قيل ادخل الجنة}، لأنَّه دعا إلى ما دعا إليه المرسلون، واتبع سيرتهم وجاهد في ذلك، ولو كان في ذلك بذل نفسه، تلقته الملائكة ألا تخف ولا تحزن وادخل الجنَّة، فنظر لما دخل الجنة ورأى النعيم، تذكَّر قومه ورحم قومه فقال: {يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}. ]يس:26-27[.
وهذه أيضا رسالة كبيرة، فعندما أدركته الرَّحمة أدرك هو الآخر بدوره رحمة الخلق، فتمنَّى لهم أن يعلموا ما هو فيه، وما أكرمه الله به حتى يفوزوا مثلما فاز بالثَّواب العظيم، وهكذا الدَّاعية الصَّالح النَّاجح يأمر النَّاس بما أمر الله به، وهو رحيم بهم يرحم العاصي إذا عصى، ويرحم الضَّال إن ضل، ويدعو للنَّاس حتى يكونوا من أهل الجنة.
يقول الإمام أحمد (رحمه الله): (وددت أن جسدي قرض بالمقاريض، وأن الخلق أطاعوا الله جل جلاله، لأنه يحب المؤمنين ويحب أهل الإسلام، كما بها أيضا حث على تطهير القلب من الحقد والحسد وكل أمر قبيح، وتمني الخير دائماً للناس).
وقال الإمام القرطبي (رحمه الله): ( في هذه الآية تنبيهٌ عظيمٌ، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم على أهل الجهل، والترؤف على مَنْ أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمّر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدُّعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتَلَته، والباغين له الغوائلَ، وهم كَفَرة عَبَدة أصنام).
وكما أقرت القصة القرآنية ثواباً عظيما للداعية الذي يتمسك بطريق الله، أوضحت أيضا مصير الضالين والمستكبرين على الله، والمتطاولين والذين لم يعطوا لأنفسهم الفرصة لمن ينقذهم من العذاب، فصاحب الحق والداعي إليه دخل الجنة وكرم كرما كبيرا، أما المكذبين فقال الله تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}، ]يس:28-29[.
فليس الأمر بعسير على ربِّ العالمين، لا يحتاج إلى جنود مجندة، إنما هي صيحة من السماء فأخذتهم صاعقة أتتهم، فأخذتهم فكانوا أمواتًا فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد، صدوا واستكبروا ولهم العذاب، ويا لفرحة الدعاة والمؤمنين، صبروا على الطريق فكانت لهم النجاة.
هكذا هي قصص القرآن تحمل العبرة والعظة، وإنَّ الدعوة الصَّالحة النَّاجحة لا بدَّ أن يكون فيها ومعها ولها التدبر الأعظم في سنن الله، وفي قصص القرآن، وفي دعوة الأنبياء والمرسلين، لأنَّ من أخذ بدعوتهم، فإنَّه على نجاح في دعوته، وإن الدفاع عن العقيدة الصحيحة والمنهج الحق؛ مطلب كل داعية مؤمن بالله ورسُله، والدعوة إلى الحق والهدى بعد معرفته وتبيّنه؛ صفة المسلم الصادق، يفعل ذلك ويؤديه حسب قدرته، باذلاً لذلك كل وقته، ومستمرًا عليه حتَّى لو أدَّى به ذلك إلى القتل وإزهاق الروح؛ لأنَّه يعلم أنه لن يموت إلاَّ بإذن الله كتابًا مؤجلاً، شعارهم دائما :
(الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)
فإمَّا النَّصر وإمَّا الشَّهادة، ولذلك كانت صفة مؤمن آل ياسين.
كما أنَّ القصة تبرز أيضاً مبادرته الكبيرة، لأنَّه لم ينتظر أنْ يطلب منه أحدٌ أن يصدحَ بكلمة الحق، وإنَّما هو بنفسه فاضَ الإيمان بقلبه حتَّى غمر الآخرين، وجاهد في سبيل دينه بالكلمة، ولذلك يجب أن يعلم كل إنسان والدعاة خصوصاً أنَّ السَّاحة لن تخلوَ ممَّن عمرَ الإيمانُ قلوبهم، وتعمَّقت الدعوة في أفئدتهم، وأقضّ المنكر كلّ ذرة في أبدانهم؛ لأجل ذلك قيض الله لهؤلاء الرسل من يدافع عنهم.
ونجد في الآياتِ الكريمة وصفاً لهذا المؤمن الشهيد بالسَّعي والسُّرعة في قول الحق وتبليغه وإنكار المنكر، وهي صفة الداعية أنَّه سريع في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وتغييره، كما أنَّه اقتدى أيضاً بالأنبياء، حيث إنَّه لم يبلغ دعوته نظير أجر أو مال، ولذا قال هذا المؤمن لقومه:{اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ}، ]يس:21 [.
وقيل : إنَّه قُدم عدم سؤال الأجر على الاهتداء؛ لأنَّ القوم كانوا في شك من صدق المرسلين، وكان من دواعي تكذيبهم اتهامهم بأنهم يجرّون لأنفسهم نفعاً من ذلك؛ لأنَّ القوم لما غلب عليهم التعلّق بحبّ المال، وصاروا بُعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يعدّون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه فقُدِّم ما يزيل عنهم هذه الرِّيبة.
ويظهر حوار مؤمن آل ياسين مع قومه كيف أنَّه استخدم أسلوب الإقناع في الجانب الدعوي: فقد كان من ضمن نصحه لقومه أنه قال لهم:{وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَذِي فَطَرَنِي}، أي: إنَّه يريد أن ينبِّه النَّاس إلى أهمية العودة إلى الفطرة وتحكيم العقل، لأنَّ صاحب العقل يؤكِّد أنَّ عبادةَ العبد لمن فطره أمرٌ واجبٌ في العقول، كما نجد في مخاطبة هذا المؤمن لقومه أنَّه احتج عليهم بما تقرّ به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنَّها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال:{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} . ]يس:23-24[.
فلم يحتجّ عليهم بمجرّد الأمر، بل احتج عليهم بالعقل الصَّحيح ومقتضى الفطرة.
وتعالج القصة أيضاً قضية الاستمرارية في الدَّعوة إلى الهدى رغم الصِّعاب والعوائق التي تواجه الدَّاعية في الطريق ورغم قوة المفسدين والظالمين والطغاة والأشرار وكل من يتربص للدعاة وهم كثر في زماننا هذا، فلقد اقتدى مؤمن آل ياسين بالأنبياء والمرسلين، وظل في دعوته رغم التهديد والوعيد، وفي النهاية قدَّم روحه في سبيل فكرته ودعوته، مقتديّاً في ذلك بقول صحاب تفسير(( في ظلال القرآن)): (إنَّ كلماتنا ستبقي ميتة أعراسًا من الشموع لا حراك فيها جامدة، حتَّى إذا متنا من أجلها انتفضت حيَّة وعاشت بين الأحياء).