هي الانطلاقة نحو الخير، والمبادرة الفعَّالة لتوصيل الرِّسالة مهما كانت المعوقات. تلك هي (الذاتية) التي تعدُّ الدَّافع الرئيس للدَّاعية والمدعو على حدٍّ سواء لإنجاح العمل، وتحصيل الخير، والتَّأثير في النَّاس، فمهما كانت القدرات والكفاءات التي يتحلَّى بها الدَّاعية أو المدعو، إلاَّ أنَّها لن تكون ذات تأثير كبير، إلاَّ أن تكون مندفعة من الذَّات، ولذلك ربط المولى عز وجل بين التَّغيير والإصلاح والتَّأثير في النَّاس بمفهوم الذَّاتية لأنَّها الوحيدة التي تستطيع أن تفجِّر في الإنسان الطَّاقات، فقال ليحيى: { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ].
فهي القوَّة التي تساعده على تفجير الطَّاقات ومواجهة الأزمات، والثقة والأمل، رغم العقبات والمحن، ولن تنتصر النفس إلاَّ بالإرادة الداخلية، كما أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أوضح هذا المفهوم في حديثه: "عرفت فالزم". كما حثَّت الآياتُ الكريمة دائماً على مثل هذا المفهوم، أن يسعى الإنسان بنفسه لا ينتظر الآخرين ولا يتقاعس، فقال تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تُكلفُ إلا نفسك وحرض المؤمنين ... }. [ النساء : 84 ] وقال أيضًا: { يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة .... } [ التوبة :38 ]
المتتبع للقصص القرآني، يجد الاهتمام الكبير بتفعيل الذَّاتية والإيجابية، لأنَّها معيارُ نجاح أيِّ فرد سواء داخل حقل الدَّعوة أو داخل معترك العمل
المبادرة الذاتية
والمتتبع للقصص القرآني، يجد الاهتمام الكبير بتفعيل الذَّاتية والإيجابية، لأنَّها معيارُ نجاح أيِّ فرد سواء داخل حقل الدَّعوة أو داخل معترك العمل، فكما أشار إلى مؤمن (يس)، الذي تحرَّك بدافعية ذاتية لدعوة النَّاس لاتباع المرسلين، وكان مصيره الجنَّة، نظراً لإيجابيته وذاتيه والدَّافعية الدَّاخلية التي جعلته يتحدَّى الخوف والصِّعاب ويصدح بكلمة الحق، يقول الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.[ يس :20-21 ].
وأيضاً ذاتية مؤمن آل فرعون، يقول تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [ غافر :28 ].
كما أنَّ قصة الهدهد هي مثال ولا أروع في المبادرة الذاتية والإيجابية حتى في الطُّيور وليس في البشر، وكيف كان لطيرٍ بفضل ذاتيته أن يكون السَّبب في إعلاء كلمة التوحيد، فقد جاء إلى النَّبي سليمان عليه السَّلام بخبر ملكة سبأ، وبما جرى فيها من عبادة هؤلاء القوم للشَّمس، وقد أنكر بشدة عبادتهم لغير الله تعالى مع استحقاقه سبحانه للعبادة دون ما سواه، وبيَّن الـهدهد ذلك بكـلام يدلُّ على توحيـده لله تعالى وعبوديته.
مهما كانت ملكات وقدرات القادة والمربين، وقوَّة تأثيره في صفوفهم، لكنَّها لن تكون بنفس القوة والفاعلية لو كانت مستمدة من الذَّات، ومن رغبة جامحة نحو التَّغيير، ومن قوّة دافعة للنَّفس وللغير، ومن إحساس داخلي بهم هذه الدَّعوة، ونشر الرِّسالة، وبالاحتراق الدَّاخلي من أجلها
منهج إلهي يتحقَّق بجهد البشر
يقول صاحب تفسير ( في ظلال القرآن) حول هذا المعنى لاستنهاض همم النَّاس: "إنَّ هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم، وفي حدود طاقاتهم البشرية، وحدود الواقع المادي للحياة الإنسانية".
الأمر الذي يؤكِّد أنَّ هذا الدِّين لا يقوم ولا ينتشر إلاَّ بالجهد البشري، وبالطَّاقة التي يبذلها أصحابها، وبالمبادرة الذَّاتية لنشره، ومعلوم أنَّه مهما كانت ملكات وقدرات القادة والمربين، وقوَّة تأثيره في صفوفهم، لكنَّها لن تكون بنفس القوة والفاعلية لو كانت مستمدة من الذَّات، ومن رغبة جامحة نحو التَّغيير، ومن قوّة دافعة للنَّفس وللغير، ومن إحساس داخلي بهم هذه الدَّعوة، ونشر الرِّسالة، وبالاحتراق الدَّاخلي من أجلها، حيث كان النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم خير النَّاس في الذاتية والإيجابية والعطاء، فلقد تحمَّل في سبيل نشر الرِّسالة الكثير من الابتلاءات، وحورب وحوصر، وحاول المشركون قتله مراراً وتكراراً، ورغم كلّ الصِّعاب التي واجهها، لم يرض أن يطبق جبريل على قومه الذين عذَّبوه الأخشبين، ويستريح من ظلمهم، ولكنَّه بمبادراته، جاهد وقاوم وتحدَّى حتَّى بلَّغ رسالة ربِّه رافعاً شعار: "لعلَّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله" وهو ما حدث.
كما لنا في الصَّحابي الجليل أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه عبرة، فلقد انطلق بمبادرة ذاتية منذ أسلم على يد الرَّسول إلى دعوة أصحابه لهذا الدِّين، وأسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنَّة، وكان يقدّم كلّ ما يملك للرَّسول من غير ما مسألة من أحد.
والذَّاتية لم تقتصر أمثلتها في القصص القرآني أو السيرة النبوية، ولكن وضحتها لنا سير التابعين وتابعي التابعين، فعلى مدار التاريخ الإسلامي، نجد العلماء والدُّعاة قدَّموا لنا أروع الأمثلة في تطبيق مفهوم الذَّاتية والإيجابية، كما في عصرنا الحديث، وفي ظل انهيار الخلافة الإسلامية، نجد من شغل نشر الإسلام باله، وكان همُّه هو بعث صحوة إسلامية جديدة تعيد لتلك الأمَّة عزتها وكرامته المفقودة، وتعيد النَّاس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى والعودة إلى المساجد التي هجرها النَّاس، فكان الإمام الشهيد حسن البنا، الذي انطلق بمبادرة ذاتية لنشر قيم الإسلام والعودة إلى منهاج الرَّسول الكريم، وربَّى آلاف الرِّجال على حمل هذا الدِّين، وانطلق في الفيافي والبلاد لبعث الصَّحوة الإسلامية من جديد، حتَّى يفيقَ النَّاسُ من سباتهم ونومهم العميق، ويهبّوا للعمل من أجل هذا الدّين، ونشره في أصقاع الأرض، بمبادة ذاتية لم يطلب منه أحدٌ أن يقوم بها، ولكنَّها جاءت من دافع داخلي وإحساس بهذا الدِّين وحمل لهمه، وسعي لإعلاء شأنه، بعد أن أحزنه الواقع المتردي للمسلمين.
وسائل ومهارات ومظاهر ضعف
والذَّاتية رغم أنها صفة داخلية في الإنسان، إلاَّ أنَّ الدَّاعية والمدعو على حدِّ سواء يستطيع أن يكتسبها ببعض الوسائل والمهارات، ويزيد من فاعليتها، وذلك من خلال نشر مفهوم الذاتية والإيجابية والمبادرة على أنَّها عملية ذكية في كسب الأجر، وذلك من خلال عمل عام فيه نفع لعامة النَّاس، ونمزجه ببعض الوسائل التنافسية، وفتح المجال للعصف الذهني واقتراح أفكار، ويتم من خلال ورش عمل لمحاولة تطبيقها، بالإضافة إلى أن يتم غرس قيمة مهمَّة في داخل الفرد وهو استشعاره اليقيني أنَّه الوحيد من دون هذا العالم المنوط به هذا الأمر وهذه الفكرة، وأن يشعر أنَّه على ثغر من ثغور هذا الدِّين، وهو وحده عليه أن يدافع عنه، فضلاً عن مدارسة القصص القرآني والسِّيرة النبوية وسيرة الصَّحابة والتابعين، وبالأخص أيضاً قصص المحدِّثين لأنَّها ذات تأثير كبير، وإيجاد وسائل التَّحفيز الدَّائمة على تفعيل قيم الذاتية وفتح المجال للإبداع، والتربية على المعنى الحقيقي للإيمان، فالمؤمن الحق يصدق قلبه بالله ورسوله فيخشع ويخضع ويندفع ليحقق بسلوكه وعمله ما استقر في قلبه، فيكون لإيمانه أثر في دنياه، وأيضاً اعتقاد وجوب الدَّعوة، وأنَّها من أولى الواجبات، وأن التقاعس عن أدائها وعدم المبادرة لتحمّل تبعاتها قد يكون في بعض الأوقات تفريط بأمانة يسائل عنها الفرد أمام الله، وأيضاً استشعار عظم أجر المبادرة، فقد يكون أجر صاحبها مثل أجور كل من أتى بعده.
وكما أنَّ للذَّاتية وسائلَ ومكتسباتٍ لها أيضاً مظاهر ضعف يستطيع المرء إن وجدها في نفسه أن يسعى بسرعة إلى علاجها؛ كأن تكون لديه دائماً صفة التواكل على الغير، والتهرب من مسؤولية، وعجز عن قبول أي تحدٍ، فضعيف المبادرة قليل الجرأة لا يعمل إلاَّ حين يكلف، وإذا ما كلِّف لابدَّ وأن يُتابع، كما أنَّ ضعيف الذاتية تجد أن صفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر غير متأصلة فيه، فلا يأمر أحداً بخير ولا ينهي عن شر، كما تجده دائماً يسعى للبعد عن موضع المسؤولية، ويميل إلى الروتينية والوظيفية في العمل، بعيداً عن الابتكار والإبداع، ويسعى لأن ينهي العمل على أي صيغة، ودائم الأعذار، وهي صفات يجب أن يسعى المرء إن وجدها في نفسه أن يغيّرها، ومن خلال الوسائل التي ذكرنها يسعى لتأصيل صفة الذاتية في نفسه.