لعبت الفضائيات الإسلامية في السنوات الأخيرة دوراً فاعلاً لخدمة الدعوة الإسلامية؛ حيث نجحت في الوصول إلى الجمهور في منازله دون تكبّد عناء الذهاب إلى المساجد أو المراكز الدَّعوية، بل إنَّ الفضائيات نجحت في الوصول إلى ملايين المشاهدين، وفى وقت أسرع من الأسلوب التقليدي للدعوة القائم على الوعظ والخطب المنبرية، وتخطَّت الدَّعوة عن طريق الفضائيات حدود الجغرافيا، ووصلت إلى أبعد نقطة على خريطة الكرة الأرضية دون تكبّد عناء السَّفر.
ونجحت الفضائيات الإسلامية على مدى السنوات الأخيرة في صناعة رموز دعوية، كان من أبرزهم - على سبيل المثال لا الحصر- الدكتور عمرو خالد الذي انطلقت به الفضائيات من مسجد المغفرة بضاحية المهندسين بالقاهرة إلى مدار العالمية، وكان له دور في الوصول إلى الطبقات الارستقراطية التي يندر من يتوجَّه إليها من الدُّعاة بالخطب.
بداية الانطلاق..
في غُرَّة رجب عام 1419هـ أعلنت «شبكة راديو وتلفزيون العرب» إنشاء قناة «اقرأ» الفضائية الإسلامية، كأول إسلامية متخصِّصة، معلنة بذلك دخول نوع جديد من الفضائيات للمشاهد العربي، تنامت بعد ذلك الأفكار وزاد عدد القنوات من هذا النَّوع متجاوزة 80 قناة إسلامية في عام 2010م، كان من بينها قناة المجد، والرّسالة، والنَّاس، والحكمة، والفجر، والرَّحمة، وهدى، ودليل... وغيرها. وعلى الرَّغم من حداثة التجربة الفضائية الإسلامية مقارنة بالقنوات العامة الأخرى أو حتى المتخصصة، إلاَّ أنَّه يمكننا القول: إنَّ الفضائيات الإسلامية استطاعت أن تثبت نفسها رغم حداثة سنِّها وقلَّة خبرتها، وفرض الإعلام الإسلامي وجوده بين وسائل الإعلام الأخرى من خلال نسب المشاهدة العالية، وبلغت نحو 100 قناة أثبتت وجودها، وأصبحت تحظي بنسب مشاهدة عالية جداً.
الحرب على الفضائيات..
وإزاء الدور الفاعل الذي لعبته الفضائيات الإسلامية في ربط الناس بتعاليم دينهم، انتفض أرباب العلمانية شاهرين سيوفهم في وجه الفضائيات الإسلامية، خاصة وأنَّهم قد اعتادوا الاستحواذ على وسائل الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي، ولم يسمح طوال نشأة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء حضور الإسلاميين بقوَّة في هذا المجال.
وتجلَّت آخر مشاهد تشويه الإعلام الإسلامي في استخدام آلتهم الإعلامية الضخمة المملوكة للدول والمملوكة لأشخاص في الإفراط في تشويه صورة الفضائيات الإسلامية، واستغلال أية ثغرات لا للوقيعة بينها وبين الجماهير، بل وللوقيعة أيضاً بينها وبين الحكومات، فكانت الهجمة الأخيرة بإغلاق العديد من الفضائيات الإسلامية البارزة؛ مثل الناس والرَّحمة والحكمة والتهديد بإغلاق باقي القنوات خاصة بعد الدور لذي لعبته هذه الفضائيات في خلق وعي إسلامي عام بالأخطار التي تحيق بالأمَّة؛ كالخطرين العلماني والصهيوني.
ووصلتْ هذه الحملة المسعورة ذروتها؛ حيث لم يترك هؤلاء فرصةً إلاَّ وصبُّوا جامَ غضبهم على القنوات الإسلاميَّة، مطالبين بإغلاقها، "حتى لا تنشرَ السحر والشعوذة"، وذلك في إشارةٍ إلى مناقشة هذه الفضائيَّات للعلاج بالطب النبوي، فضلًا عن اتهامِهم الباطل لها بنشر التطرف، والحض على كراهية الأديان.
وفي كلِّ مرة، كان يضغط أمثال هؤلاء على الحكومة المصريَّة لإغلاق هذه القنوات، حتى كانت النبرة النصرانيَّة الحادَّة ضد الإسلام والمسلمين في الآونة الأخيرة، واستقواء القساوسة بالكنيسة،، فضلًا عن قيام الأديِرة والكنائس باحتجاز الفتيات اللاَّتي أسلمن داخل الكنائس، وهو ما أثار معظم الفضائيَّات فأخذتْ تتناول الموضوع، وتطرحُه للنقاش عبر برامجِها.
ولذلك جاء قرار حجب أربعة قنوات فضائيَّة، هي بالأساس قنوات إسلاميَّة، وهي فضائيات: "الناس، الخليجية، الصحة والجمال، الحافظ"، بالإضافة لقناة الرَّحمة وصفا.
وعلى صعيد أخر، فقد عزا محلِّلون قرار إغلاق عدد من الفضائيات الإسلامية بأنَّه يهدف أساسًا إلى وقف انتشار الفكري الإسلامي الذي يمكن أن يعزّز التأييد الجماهيري للحركة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
تجفيف المنابع..
وتعيد الحرب على الفضائيات الإسلامية إلى الأذهان الحرب التي شنَّتها بعض الدول العربية على المنابر والمساجد لمحاربة الدعوة الإسلامية تحت شعار: "تجفيف المنابع"، وهي سياسة لم تكن بنات أفكار أباطرة التغريب في العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة، حيث تمتد إلى المواجهات الأولى بين الحق والباطل، منذ أن جاء سيّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالرِّسالة الخاتمة في مكة؛ حيث دأبت قريش على محاولة منع وصول كلمة التَّوحيد إلى آذان النَّاس داخل مكَّة وخارجها، ووجه صناديد قريش جهودهم إلى المنبع الأول، صاحب الرِّسالة عليه الصَّلاة والسَّلام لمحاولة الحدّ من تأثيره، فكانت محاولاتهم متعددة الوسائل: منها ما كان بالترغيب أو الترهيب، أو المقاطعة الاقتصادية، أو الاستهزاء والسخرية، أو غير ذلك من الوسائل.
ويكشف كتاب (المسلمون في الاتحاد السوفيتي) الذي ألَّفه الفرنسيان (بينغسن ولمرسييه) وصدرت طبعته الإنجليزية في عام 1967 م عن صورة تاريخية للتجربة الأم لسياسة «تجفيف المنابع»، التي رسمها المفكر الشيوعي من أصل مسلم «سلطان غالييف» للحزب الشيوعي، وقام الحزب بتنفيذها بلا هوادة منذ بداية سيطرته على المنطقة الإسلامية في آسيا الوسطى وبلاد القفقاس والقوقاز.
وقد بدأت الحكومة الشيوعية تنفيذ سياسة «سلطان غالييف» لتجفيف منابع الإسلام بشكل غير مباشر: يقول المؤلفان: «ما كادت الحرب الأهلية تنتهي حتى هاجمت الحكومة السوفيتية الإسلام بطريق غير مباشر، وذلك بالقضاء على المؤسسات الإسلامية الثلاث، وهي: أولا: الأوقاف التي كانت تضمن القوة الاقتصادية لعلماء الدين، ثانيا: المحاكم الشرعية التي تمنح الإسلام السيطرة على حياة المسلمين الخاصة، وثالثاً: التعليم الديني الإسلامي، وقد شنَّت هذه الحملات الثلاث في وقت واحد تقريباً».
واتجهت الجهود إلى منابع الإسلام الحقيقية، التي تضمن استمرار هيمنة تعاليم الدين في حياة الناس، فاتجهت الجهود لاستنساخ تجربة تجفيف المنابع الشيوعية، ليتم تطبيقها بعد تعديلات طفيفة في بعض البلاد العربية، وتمَّ تطبيقها منذ عشرات السنوات عندما تمكنت الدول التسلطية في العالم العربي من السَّيطرة والتحكم في المؤسسات الثلاث التي تحدث عنها الكاتب، وهي: الأوقاف الإسلامية التي كانت تمنح المشاريع الدعوية والعلمية الاستقلالية الاقتصادية، والتعليم الإسلامي بعد أن ألغت أو ضمَّت جميع المعاهد الشرعية إلى النظام التعليمي العلماني، وقبل ذلك ألغت المحاكم الشرعية أو كادت بعد أن ربطتها بمؤسسات مركزية تخضع مباشرة للحزب أو الدولة، وبقي من سياسة تجفيف المنابع ملاحقة الشَّوارد التي قد تتدخل في هذه المؤسسات الثلاث، وتحاول إعادة الصفة الإسلامية ولو قليلاً إلى النِّظام التعليمي أو المحاكم، أو الأوقاف الإسلامية، وبقي منها أيضاً ملاحقة الدّعاة الذين يتهمون في وسائل الإعلام «بالجهل، والظلامية، والتطرّف، والإرهاب...».