سُمو النَّفس عن الصَّغائر هي أكثر الأشياء التي يسعى إليها الدَّاعية طوال مسيرة حياته على طريق الدَّعوة، ويسعى إليها كلُّ سالك في هذه الدُّنيا لينهل من الخيراتِ، ويتكسب الحسنات، ويبتعد عن الوقوع في شِراك المعصية، ولذلك يسعى الإنسان دائماً إلى أن يعصم نفسَه من الصَّغائر والكبائر على حدٍّ سواء، ليفوز بجنَّة عرضها السَّموات والأرض، وتكون حياتُه على منهج الله تعالى، ويستعلي ويترفَّع عن الوقوع في الخطايا، وذلك هو مفهوم الرَّبانية الحقيقة، التي يحاول الداعية أن يؤصِّله في نفسه.
فالرَّبانية هي قوَّة الإيمان والعقيدة والمعرفة الحقيقية بعظمة الخالق جلَّ وعلا، وهي نقاءُ السَّريرة، وهي عصمةٌ من الوقوع في شِراك الدُّنيا ولذَّاتها، ليس بالانقطاع عنها، ولا تحريم كلِّ ما فيها، ولكن تطويعها لتكون على المنهج الرَّباني الذي أرشدنا إليه المولى جلَّ وعلا، ووجَّهنا إليه الأنبياء الكرام، ولذلك على الدَّاعية أن يتحلَّى بالرَّبانية بكلِّ معانيها ووسائلها وصورها، خلقاً وسلوكاً، وواقعاً ملموسا، ويعيش بشعار يرفعه دائماً في الدنيا وهو الآية الكريمة: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، ويحقِّق أيضاً قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}.[آل عمران:79]
فعالمنا اليوم يموج بالكثير من الفتن، وحال المسلمين يرثى له، وأعداء الأمَّة يتكالبون عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وتأثيرهم في العالم غثاء كغثاء السَّيل، وإصلاح ذات بينهم مفقود، وينشقون فيما بينهم لأسباب واهية، ونعرات كاذبة، تحدّيات عديدة تحتاج إلى الأمَّة الرَّبانية التي تتكاتف فيما بينها لتحقّق النَّصر، ولتهزم مخطَّطات الأعداء ولتحمي قدسها ومقدساته، فالمنهج الرَّباني فقط هو القادر على أن يوحّد تلك القلوب المتنافرة، ويؤثِّر فيها، ويقودها إلى رفعة الأمَّة ثانية، وإحياء الحضارة الإسلامية التي سادت العالم لقرون، وقادرة على تحرير بلاد المسلمين من أيدي الأعداء وتحرير المقدّسات، وعلى رأسها القدس الشريف، فما أحوج الأمَّة إلى الإنسان الرَّباني، وإلى الأيادي المتوضئة التي تعمل لنصرتها، والتي ترفع أكفها بالدُّعاء، وفي ذات الوقت تعمل وتأخذ بالأسباب لنصرتها.
فالربانية كما يقول العلماء: "أن تكون مع الله تعلماً بكتابه، ومعرفة بذاته وأسمائه وصفاته، وعملاً بأحكامه وشرائعه، ودعوة إلى دينه وطريقه وسبيله، وصبراً على معاناة الدَّعوة وتربية الخلق وسياسة النَّاس، وقيادة للحياة كلها على منهج الله سبحانه وتعالى، كما قادها سيِّد الخلق صلَّى الله عليه وسلّم بكل شعبها ومناحيها، باقتصادها وسياستها واجتماعها، مسحة الإيمان ظاهرة عليها، جوهر الأخلاق هو حقيقتها ولبّها، ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى هو غايتها ومرادها، لا تنسلخ في سياستها لتكون صورة من صور النّفاق، لا تنسلخ في معاملاتها لتكون من أصحاب الدُّنيا والرِّبا والقِمار وغيرها، لا تنسلخ في اجتماعيتها لتكون من أهل الشَّهوات، نظرات مسمومة وآهات محمومة، ومشاهد آثمة، وممارسات الفاحشة، كلا يبقى ذلك الرباني بعصمة الله له، وبانتسابه إليه، وبتمسكه بحبله، معصوماً بحبله من كل تلك الآفات الدنيوية.
ولقد كان الإمام الشهيد حسن البنا -رحمه الله- في غاية الوضوح؛ عندما بيَّن حقيقةَ أنَّ الدَّعوة وسموَّ هدفها وغايتها ووسائلها، هي دعوة ربانية، فالدعاة وهم طليعة هذه الأمة وحاملو لواء دعوتها عليهم التَّحلِّي بالرَّبانية والتخلُّق بها، وتحقيقها في أنفسهم؛ ليتحقَّق فيهم صفات العبد الرَّباني، الذي يتعلَّم أمر الله ونهيَه، ويعرف شرع الله ووحيَه، فيطبقَه في ذات نفسه، ويدعو غيرَه إليه، ويقوم بعملية الإصلاح في حياة النَّاس؛ لما فيه خير النَّاس في عاجلهم وآجلهم.
وللرَّبانية العديد من الرَّكائز يسعى الإنسان إلى تحصيلها؛ فأولها: هو الصِّلة بالله عزَّ وجل، فالرَّباني منسوب إلى الرَّب، فيجب أن توقظ هذا الحس في قلبك، وأن تشغل به فكرك، وتحي به كلامك وقولك، كن دائماً تشعر وأنت تدب على هذه الأرض أنَّ قلبك معلَّق بالسَّماء، كن دائماً وأنت تتكلَّم في كلامك أنَّك مسدّد بآيات القرآن، وموثّق بذكر الرَّحمن سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن تتعلَّق بكتاب الله عزَّ وجل وتتعلَّم آياتِه، فهو غياثُ القلوب من شهواتها وشُبُهاتها، فيسكن الشَّهوات ويدحض الشّبهات، هو ضياء العقل من تيهه وحيرته، فيرشد العقل ويصوِّب الرَّأي، هو الذي يكون به البعد عن كلِّ انحراف في السُّلوك ومبين في الشَّهوات ليكون ثمَّة استقامة دائمة، ومحافظة على المنافسة في الخيرات.
أمَّا الأمر الثَّالث: هو التحقّق والامتثال لأمر الله، فإنَّ ذلك ثمرته هو ذلك العلم والامتثال، لا مجرّد الإتيان بالفرائض، بل زيادة في ما يقرّب إلى الله ويحبِّب إليه، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وما يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنَّوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي عليها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه)). أخرجه البخاري في صحيحه ]5/2483، رقم:6137[.
رابعا: الدَّعوة والتَّربية على هذا النَّهج الرباني، قل كلمة الحق واصدع بها، رطِّب القلوب بهذه الآيات، ادع النَّاس لنهج محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، اجعله في حياتهم وفي أوقاتهم وفي مجالسهم القدوة التي تنجذب إليها قلوبهم، وتتطلع إليها نفوسهم وتسعى إليها هممُهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.]الأحزاب:21[.
وأخيرًا هو الإصلاح والتوجيه لشؤون الحياة، ليست الرَّبانية انعزالاً في المسجد، ليست فقط بكاءً في المحراب، ليست تضرعاً في السُّجود، ليست صياماً في الهواجر، هي ذلك كلّه؛ وهي قيادة السياسة، وتنمية الاقتصاد، وحلّ المشكلات، وعلاج الأدواء، وجعل هذه الحياة بكلِّ ما فيها من مستجدات سائرة على طريق الرَّبانية، ماضية بروح الإيمان، محلاَّة بزينة الخلق الفاضل والسُّلوك المستقيم.