ويأتي رمضان، ليقتلع من الوجدان ومن الأذهان فكر الضعف ويرفض استقواء الأعداء والرضوخ لهذا الاستقواء، ويوطن الأنفس على فكر المقاومة وثقافة المقاومة.. والصوم بعد ذلك «جنة» من كل عوامل الضعف ومن كل كل أسباب الانهيار.
كلما تماشت الأمة وتماهت مع عدوها، كان ذلك أدل على وهنها وانحطاطها، وكلما تحاشت وتناهت عن مثل هذا، كان عنوان ارتقائها ونهوضها.
فإن ارتقت إلى المجابهة والمقاومة لمخططاته كان أعرق في الدلالة على الحياة والحيوية والفعالية..
نقول هذا، والأمة على شديد علتها، وقديم وهنها، تستعد لاستقبال شهر رمضان، شهر الانعتاق والحرية والقوة والوحدة والتجديد.
هذا الشهر العظيم المليء بالمعاني المشحون بالإيحاءات والإيماءات يحتاج منا الى وعي على أهدافه وروحه، قبل الانهماك في تفاصيل المطالب اليومية له، وقبل أن تهجم علينا التفاهات برامج معلبة معدة لهذا الموسم لاستلاب روحنا فيه، واستلاب روحه منا، وغمسنا في حمأة من الفن الهابط لا تسمن ولا تغني ولا تزرع ولا تبني.
فأولاً هو شهر الله، يعلمنا ان نعظم ما عظم الله، من تعظيمنا لله، ونطيع بكل طاقتنا باندفاع وحب، لا عن إرغام وإكراه، أو مجرد تعوّد وإلف.
ويعلمنا الشهر الكريم وهذا الموسم العظيم أن نراقب الله، في سرنا وعلانيتنا، فان الصوم عمل سلبي امتناعي لا يطلع عليه أحد إلا الله، فالصوم يعلم المسلم تعظيم الله ومراقبة الله وتقوى الله وابتغاء مرضاة الله، وتعظيم شعائر الله، وذلك يعني بالضرورة والتلازم ان ننعتق من ربقة استعمار الشيطان والأهواء والأعداء. وهذه بذور التحرر في أجنتها الأولى وبدء تخلقها الأول. فما التحرر السياسي إلا نتاج وثمرة التحرر العقدي والفكري والشعوري.
وشهر رمضان، والصوم فيه، الذي هو ركن من الأركان، يعمق الإيمان، ويسقيه ويجذره في قلب المؤمن، وذلك من خلال الممارسة، وأي فكر أو اعتقاد يغذوه عمل وتضحية وبذل يتجذر في نفس صاحبه أكثر. وفي زمن استعلاء القوة وغطرسة المادة، وفشو قيم حق القوة، ما أشد حاجة الأمة إلى ايمان يرفرف بها فوق هذا الطغيان ويقرر قيمة قوة الحق، ويرقى بها إلى ذرى من العزة واليقين، مهما أظلمت الدروب، وادلهمت الخطوب، وتراكمت الكروب، وتتالت الحروب، فالإيمان عاصم يوم لا عاصم من أمر الله الا من رحم، والإيمان ملاذ ومعاذ، يوم لا ملجأ من هذا الخطر ولا مفر، ولا مأوى ولا مستقر، وحتى لا تنهار الروح وتندثر البقية الباقية من قوة لدى الأمة، لابد من الاعتصام بالإيمان.
ويظن الماديون عندنا وعند عدونا على سواء أن هذا تعلق بالوهم، وخابوا وخسروا، وما هو والله إلا رجاء في الله الذي هو الحق، والناصر الذي لا يتخلى عن أحبابه وأوليائه، ولكنه يبتليهم ليزيد إيمانهم، ويرقى بيقينهم، ويعلم الصادق الذي ينصره ورسله بالغيب، من الكاذب الذي ينهار وينضم إلى معسكر الأعداء لان ظاهر القوة معهم، وما درى هؤلاء أن القوة لله جميعاً.
فشهر رمضان شهر ترميم وصيانة وتقوية لليقين وتعزيز للإيمان وتثبيت للقلب في وجه الرياح العاتية، والعواصف الشديدة التي تقصد كسر أشرعتنا لتظل سفننا رواكد على البحر، فأما أن تغرقنا ريحهم، وإما أن نكون تبعاً لهم، وبالإيمان يتحقق التوازن، بل والتفوق، وينتهي اختلال الميزان.
وشهر رمضان شهر المنهج الذي تلتقي فيه وعليه الأمة، فهو أي رمضان الزمان الذي اصطفاه الرحمن لينزل فيه القرآن، لينزله من أم الكتاب في ليلة تعدل الزمان كله، فما الزمان كله، إذا خلا من منهج الله.. من القرآن؟ ما الإنسان إذا لم يستنر قلبه وعقله وروحه بنور الإيمان؟ في هذا الشهر تتعمق صلة الأمة بكتاب ربها، تلاوة، وسماعاً في العبادات والتراويح. وهذا المنهج هو الحبل الذي يوحد الأمة ويجمع الشتات، ويلم المتفرق، ويرمم المتكسر والمتمزق
وفي زمن التيه، وازدحام الدروب بكل الملل والنحل والمذاهب وضعية وسماوية محرفة، وخرافية وملفقة، ما أحوجها في زمن التيه هذا إلى الاستنارة بنور المنهج، وفي زمن التشتيت والتفتيت ما أحوجها إلى التوحد على المنهج. فشهر رمضان شهر الهدى والوحدة والجماعة، لأنه شهر الكتاب العظيم شهر القرآن: «شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن، هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان»، «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين»، «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا».
الوحدة هي حياة الأمة وقوتها وسر بقائها، وإكسير عزتها، ويوم تتفتت إلى وحدات صغيرة تبتلع قطعة بعد قطعة بيسر وسهولة، ويكون التقسيم اكبر عون نقدمه للعدو ليبتلع الأمة. ورمضان والصيام وحدة للأمة من خلال إعلاء الروح ووحدة الرؤية والتوجه، ووحدة الفكر والممارسة ووحدة العبادة، والوحدة وعي وممارسة وما هي شعارات وأماني.
وشهر رمضان شهر «القدْر»، والقيمة العظيمة للأمة بمنهجها، وما أحوجنا إلى هذا المعنى في زمان خف فيه الوزن، وتبخر القدْر، واضمحلت الثقة بالنفس، وتراجعت القيمة، ورمضان للأمة عودة الروح وعودة الوعي وعودة الوزن وعودة القدْر والقيمة.
ولو تمسكت الأمة بالكتاب اعتقاداً وفكراً وثقافة وسلوكاً وانتماء وولاء، وعادت فيه وأحبت فيه، وحاكمت اليه، ووالت فيه، والتقت عليه، لعاد لها وزنها الأول وقدرها وهابتها الأمم من بعد استخفاف، وخاف منها من لا يرهب منها ولا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، ولا يرعى لها عهداً ولا ميثاقاً.
وشهر رمضان شهر التواصل والإحسان والعون والعطف. ومجتمعنا في أمس احتياج الى مثل هذه اللمسات من الإنسانية والتقريب والتهذيب. والمسلم في هذا الشهر يتحرر من ربقة الشح والإمساك، وينعتق من إسار التعلق بالدنيا والأنانيات، ويخف إلى الخير، كيف لا ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والمثل والأسوة كان يكون في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة. ومجتمعنا الذي نزل ثلثه تحت خط الفقر، من ذا يواسيه إذا لم يواس بعضه؟ ومن ذا يرحمه إذا لم ترحم الأجزاء بعضها؟
فهذا الشهر هو شهر صيانة النسيج الاجتماعي، وترميم شبكة العلاقات الاجتماعية وكم وكم هي القوى التي تعمل في هذه الشبكة توهيناً وتمزيقاً وإضعافاً وخلخلة تحت دعاوى كثيرة وممارسات سيئة.
وشهر رمضان شهر الإرادة، وأعظم به من معنى، وأعظم بتربية الإرادة من هدف وغاية. والصوم كان من اجل معان عظيمة وغايات عالية وأهداف سامية، في ذروة من أعلى ذراها تربية الإرادة. وما أشد حاجة الأمة إلى مثل هذا، فما قيمة أماني التحرر واستنقاذ الأوطان، مثلاً، إن لم يكن من وراء الأماني إرادة عازمة تحولها إلى تيار فعلي وواقع عملي؟ فالإنسان إرادة والأمة إرادة والجهاد إرادة والبناء والحضارة إرادة. ورمضان والصوم شهر إعلاء هذه الإرادة. وذلك من خلال رياضة النفس على الانتصار على كل عوامل الضعف والانكسار، والارتفاع فوق الضرورات. ولئن استغنى الإنسان عن الضرورات، واستعلى على الحاجات والأساسيات، فانه عن غيرها وسواها أغنى.
وما الإرادة إلا في مثل هذا الاستغناء والاستعلاء بالإيمان. ومعركة الأمعاء والطعام كانت المعركة الأولى التي خاضها الإنسان وخسرها، إذ تناول أبونا آدم من الشجرة التي نهاه الله عنها، فكانت هذه النقطة الضعيفة في بنيان هذا الإنسان محتاجة إلى ترميم وتقوية وصيانة سنوية حتى لا ينفذ منها الشيطان كما نفذ أول مرة.
والإرادة القوية لا تسمح لقوة ولا لأحد -سوى الله بالطبع- أن يستعبدك أو يجعلك تفقد الاستقلال والتوجه والمسار.
ومن هنا كان اول انتصار ذاقه المسلمون في أول مواجهة وقعت مع الكفر، وذلك في رمضان.. في بدر الغزوات.. غزوة بدر.
وما دام هذا الشهر شهر الإرادة فهو شهر الجهاد، فالإرادة هي الذخيرة الأولى له، وهي التدريب الأول عليه. وما أتيت الأمة من مدخل اخطر من مدخل ضعف الإرادة والتخلي عن الجهاد. فبهذا التخلي بلغت الهجمة على الامة من التمادي والشراسة ما تبلغ الآن.
والخطورة أن الذين يمارسون علينا أبشع ألوان الظلم والعدوان، هم الذين يشنون علينا هجمة فكرية ثقافية شرسة تريد اقتلاع فكر الجهاد من الأذهان، كما اقتلعت الشعوب من الأوطان، وكل من قاوم المستعمر او حمل فكر مقاومته فهو من الموصومين بالإرهاب والمطاردين في كل مكان.
فهذا هو العدوان علينا في أقسى تجلياته وأقصى انتهاكاته في فلسطين والأفغان وكشمير والشيشان، والعراق والسودان، وليبيا ولبنان. وليس الرد ينعدم وحسب، ولكن التفكير في استجماع الإرادة لرفض العدوان مدان. إن مجرد التفكير في ظل التراخي العربي والاستخذاء العربي بات من المحظورات.. كل ذلك ليترشح العدوان.
ويأتي رمضان، ليقتلع من الوجدان ومن الأذهان فكر الضعف ويرفض استقواء الأعداء والرضوخ لهذا الاستقواء، ويوطن الأنفس على فكر المقاومة وثقافة المقاومة.. والصوم بعد ذلك «جنة» من كل عوامل الضعف ومن كل كل أسباب الانهيار.
ولكن رمضان لا يعمل بطريقة كونية كما تشرق الشمس كل يوم، ولكنه يعمل ويؤثر بمقدار وعي الناس ونضج الممارسة، واستيعاب الحكم والدروس الكامنة في هذا الشهر، ومهمة أرباب الكلمة والوعي ان يبصروا الإنسان ويفتحوا الأذهان وينوروا الوجدان، بنور رمضان شهر الإرادة والعبادة والجماعة وشفافية الوجدان. وتقبل الله الطاعات، وكل عام والأمة بخير.