ويمكن تلخيص دوافع تجديد الوعي، كالتالي:
مهمة الوعي الكبرى أن يشكّل ذاته، ويبني استقلاله بعيدا عن سجن الواقع، وخارج معطيات البرمجة الثقافية المحلية، وخارج حدود النظام الاجتماعي السائد، وذلك بغية الحصول على أفضل إدراك للحقائق الموضوعية المختلقة. وهذا التحديد للمهمة الكبرى للوعي، هو الذي يفرض عليه السعي إلى تجديد نفسه.
مشكلة الوعي دائما الاندماج في الواقع الموضوعي، أو العيش على هامشه، والنتيجة في الحالتين واحدة وهي سوء التعامل، والعجز عن الفهم الصحيح. هذه الوضعية تتطلب منا أن نجدّ في محاولة إبقاء الوعي في علاقة جدلية حيّة مع واقع متجدد، فهو من خلال مزيد من الاستيعاب للواقع وتفسيره يجدد في تركيبه، ومن خلال تجديده لتركيبه يزيد في قدرته على فهم الواقع وهكذا.
إنَّ معطيات الاجتهاد الفقهي التي تراكمت عبر العصور، لم تعد كافية لتوجيه الوعي الإسلامي في أعماله، وصار الأمر يتطلب فقها للواقع أكثر نفاذا، كما يتطلب تنزيلا لأحكام الشرع عليه أكثر إحكاما وبصيرة. وهذا لن يتأتى إلا من خلال مزيد من الوعي بقوانين التفكير، وضبط المفاهيم، وطرق البحث والاستدلال، ومن خلال فهم أعمق لمقاصد الشريعة، وتحسس أفضل لسنن الله تعالى في الخلق.
البث الفضائي وشبكات المعلومات، وتدفق الصور والرموز الثقافية على هذا النحو العجيب أتاح للناس مقارنات ثقافية غير مسبوقة. هذا التداخل الثقافي الكوني إن لم يصحبه إنضاج حسن للوعي الذاتي، وتعزيز لآليات عمله، فإنه سيتحول من عامل تفتح ونمو للوعي إلى عامل اضطراب وإرباك، وعجز عن استخدام نماذجه ومعاييره الخاصة في إصدار الأحكام الثقافية والحضارية إذا هو أسلم نفسه للقوى الغاشمة التي تصوغ الرؤى الثقافية لمعظم سكان الأرض.
تجليات الوعي : إن معظم تحليلاتنا وسلوكياتنا وردود أفعالنا، إن لم تكن انعكاسا لما نعيه فهي تحمل الكثير من الدلالات عليه.
أولا: في الفكر: الحاجة إلى الرؤية الكلية والتي باستخدامها نرى أن الشيء قد يكون هدفا ووسيلة في آن واحد. ومن مقتضياتها تحسس الفرق بين المطلق من الأفكار والنظم وبين النسبي منها.
ثانيا: الروح النقدية: النقد مظهر من مظاهر استيقاظ الوعي. وهو يعني وعي الوعي بذاته، وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى في كل المسائل التي تحتاج إلى إعادة نظر.
نحن بشر نصيب ونخطئ، والجميع يعترف بذلك، لكن سلوكنا لا يترجم ذلك الاعتراف. فالذين يمارسون النقد يلقون الكثير من المشكلات، مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت، وتجاوزه بعضهم إلى تزيين الخطأ وتلميعه مما جعل المشاكل تتراكم وتتزايد.
النقد هو الذي يجدد الأبنية الفكرية حين يصقلها ويجعلها في حالة من التوهج والإشعاع. وهو الذي يكشف عن قصور إنجازاتنا حين يحاكمها من خلال التنظير إلى النموذج الأصلي الذي كان ينبغي أن يتجسد فيها.
ثالثا: المعرفة: حين تكون المعرفة عبارة عن وحدات متشظية، فإنها تحتفظ بشيء من قيمتها، فهي بمثابة قطع ذهبية، لكن حين نحاول أن نستخرج منها رؤية متكاملة للحياة أو منهجا متماسكا للبحث والتحليل، فإنها تكون بمثابة منجم من الذهب.
إن المعلومات التي لا نستطيع دمجها في أصول ومبادئ ونظم ونماذج عامة، تظل مشتتة، وأيضا قاصرة، لأنها آنذاك لا تجدد سوى جزء يسير من الوعي.
إن المشتغل بالتخصص يجد نفسه كلما تقدم به الزمن منهمكا في أمور فرعية تكون في العادة خارج نظام تحديات الواقع وعلاجا ته، والذي يتطلب عادة طروحاً ورؤى أكثر عمومية.