الجديد خليط من الفرص والأزمات: الظروف الجديدة بما تحتوي عليه من أزمات وفرص ومتطلبات، تشتت الوعي فينقسم على نفسه حائرا بين القديم والجديد، والظاهر والباطن، والحقيقة والمجاز، والنظام والحرية… وكل مظهر من مظاهر الوجود هذه، يجذبه نحوه، ليستحوذ عليه، وفي ذلك ابتلاء عظيم له. وكثيرا ما تخل هذه المتباينات بتوازنه الداخلي، فيميل عن سواء السبيل، ويفتتن بجزء من الحقيقة على حساب إبصار الحقائق الأخرى، وهذا ما يعاني منه معظم الناس اليوم.
نحن مطالبون بالمحافظة على كل الأصول التي تبقي على الواحد منا عبدا لله تعالى قائما بأمره، ومبتغيا لمرضاته، لكن علينا ألا نغفل عما يتطلبه التوافق مع حركة التاريخ من الفاعلية والتفوق النوعي، والنجاح في مشروعاتنا، وتحسين مستوى إنتاجنا، والفهم العميق للتحديات المحيطة بنا… وحين نزاوج بين أصول التدين الحق، وفعاليات المعاصرة، فإننا نؤهل أنفسنا للسيطرة على (الحداثة) التي تسعى بطبيعتها إلى جعلنا ننعتق من كل قيد، ونضرب في متاهات الجديد بعيدا عن جذورنا الثقافية.
التنوع في إطار الوحدة: الإسلام بما هو بنية حضارية، يوضح لنا معالم الوحدة، ويحثنا على التمسك بها بصرامة، كما يحثنا على مقاومة كل ما ينال منها، لكنه في الوقت نفسه ترك لنا في شؤون الحياة مساحات واسعة من الفراغ التشريعي والتنظيمي، حتى نستخدم في ملئها عقولنا وخبراتنا، مما يعني في نهاية المطاف إطلاق العنان للرأي والاختلاف والإبداع، وإغناء الحياة بكل ما يمكن أن يجعلها مرضية لشتى الأذواق ومحققة لكل المصالح وملائمة لكل الحالات الخاصة.
وهذه المنهجية في رسم حدود التوحد والاختلاف، هي التي مكنت أمة الإسلام من أن تؤسس (إمبراطورية) ضخمة، تعجز عنها الدول العظمى اليوم، وهي التي أوجدت حضارة مشتركة بين المسلمين في الأرض مهما كانت الظروف التي يعيشون فيها، ومهما كانت القوميات والجنسيات التي ينتسبون إليها.
توجيه التطور: إن أحد مقاييس التحضر المهمة اليوم يكمن في مدى سيطرة الناس على بيئاتهم الاجتماعية والطبيعية، ومدى قدرتهم على استيعاب سنة التغيير، والتلاؤم معها.
إنَّ التجربة الحضارية لكل الأمم العظيمة تدل على نحو لا لبس فيه، أن أهم عوامل رقيها ونجاحها، لا يكمن في أنها استطاعت أن تفعل ما يفعله الآخرون، وإنما في قدرتها على الانفتاح على الآخرين، ثم قدرتها على التحوير والتعديل فيما تقتنيه منهم بما يلائم خصوصيتها وظروفها وحاجاتها.
علينا أن نراقب تطور ثقافتنا، ولاسيما في ظل الاتصال العالمي الذي فاق كل تصور. ولا ينبغي أن يخدعنا في هذا الشأن أن عقيدة التوحيد التي يحملها المسلم بين جوانحه، ستضمن لثقافتنا حصانة من الانجراف والانحراف في التيار المادي العاتي الذي نعيشه اليوم. فالمدلولات العقدية والقيمية، قد يتم تجاوزها وتأويلها دون انتباه الوعي لذلك.
من الملاحظ اليوم أنَّ المفتونين بالحضارة الغربية لا يهتمون بصحة الأفكار، ولا بمدى انسجامها مع الأفكار والقيم الإسلامية التي تشكل صلب ثقافتنا – بمقدار اهتمامهم بفاعلية تلك الأفكار، وتأثيرها في تحسين الإنتاجية، مع أن الفكرة أو القيمة التي لا تجد لها أساسا في البنى العميقة للثقافة قد تتحول فاعليتها من وسيلة بناء إلى وسيلة هدم كما في النشاط الربوي مثلا.
يقف في المقابل لهذا كثير من طلاب العلم الشرعي، فهم يبحثون دائما في صحة الأفكار دون النظر إلى توظيفها وتفعيلها في خدمة الحياة الإسلامية. وهناك أعداد ضخمة من البحوث التي تحاول اكتشاف المنهج الرباني، أو حكم الله تعالى في شؤون الحياة، لكن ليس هناك سوى القليل من الدراسات التي تبحث في اكتشاف سبل توظيف ذلك المنهج، وجعله يهيمن على الحياة.
تطوير الثقافة: إذا ما أردنا أن نجدد في منظومتنا وأنساقنا الثقافية، فإن علينا أن نكتشف الأنماط والصيغ الثقافية التي تلبي متطلبات التدين الحق، وتساعد في الوقت نفسه على جعل الإنسان المسلم يعيش عصره بكفاءة وفاعلية، أي تلك التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة. وهذا لن يتم إلا من خلال فهم عميق لثوابت الإسلام ومراميه الحضارية، وفهم عميق لمتطلبات النجاح في الصراع العالمي المعاصر.
وختم بذكر أهم الملامح التي عدّها أساسية في ثقافتنا المعاصرة، وهي: مرجعية المنهج الرباني، التفوق نعمة وليس امتيازا، التفاوت مصدر تنوع ويمنح فرصة تحقيق مبدأ “نختلف لنأتلف”، الاحتفاء بالعدل، التشبع بمعاني السلم والألفة والمودة والتفاهم والمحاورة بالحسنى واحترام التعدد الثقافي، والتسامح والعفو والإيثار وحسن الجوار وصلة الأرحام، وكف الأذى، التداول والتبادل: تبادل الخبرات والتعاون، والنهوض المشترك بالمصالح العامة، الحس الإداري والتخطيط للمستقبل.