السباعي والسياسة
اختارت دمشق الدكتور مصطفى السباعي نائباً في الجمعية التأسيسية عام 1949م، وهو ابن حمص، ولم يمض على إقامته في دمشق سوى بضع سنين، وسرعان ما لمع نجمه كبرلماني شعبي متفوق، فاتجهت إليه الأنظار والتفَّت حوله القلوب، وانتُخب نائباً لرئيس المجلس، وأصبح عضواً بارزاً في لجنة الدستور، وقد بُذلت له العروض بإلحاح وإغراء، للدخول في الوزارات المتعاقبة فرفضها، مؤثراً العمل الشعبي والعيش مع مشكلات الجماهير وقضاياها، وكان عضواً في لجنة الدستور، وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسوّدة الدستور، ولقد قاد معركة القرآن تحت قبة البرلمان، وتمكن السباعي وإخوانه من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور، وفرض الطابع الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية سنة 1950م.
وفي هذا العام نفس عام 1950م، عُيِّن السباعي أستاذاً في كلية الحقوق بالجامعة السّورية .
وفي عام 1952م، تقدَّم السباعي وإخوانه بطلب إلى الحكومة السورية للسماح لهم بمشاركة إخوانهم المصريين لمحاربة الإنجليز في قناة السويس، فما كان من رئيس الحكومة أديب الشيشكلي إلاَّ أن أمر بحل جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال السباعي وإخوانه وإلقائهم بالسجن.
ثم أصدر أمره بفصل السباعي من الجامعة السورية، وأبعده خارج سورية إلى لبنان.
وفي السنة نفسها، أسس مع إخوانه (مجلة الشهاب ..) الأسبوعية، والتي استمرت في الصدور إلى قيام الوحدة مع مصر عام 1958م، وفي العام 1955م، حصل على ترخيص إصدار مجلة (المسلمون) الشهرية بعد توقفها في مصر، وظلت تصدر في دمشق إلى عام 1958م؛ حيث انتقلت إلى صاحبها د.سعيد رمضان في جنيف بسويسرا، فأصدر السباعي بدلها مجلة (حضارة الإسلام) الشهرية، وظلَّ السباعي قائماً على هذه المجلة حتَّى توفاه الله.
وفي عام 1957م، ذهب السباعي مع عمداء الكليات في الجامعة السورية إلى روسيا بدعوة من جامعة موسكو زار خلالها معظم الجامعات الروسية في مختلف الأقاليم، والتقى أساتذة الدراسات الشرقية والتاريخية والاجتماعية، وناقشهم وفنَّد مقولاتهم وأبطل مزاعمهم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين.
وفي عام 1957م، وبُعيد عودته من رحلته العلمية إلى الاتحاد السوفيتي هجم عليه المرض هجمة عنيفة، فأخذ منه أكثر نصفه الأيسر، فشل حركته وأثار فيه الآلام المضنية.. فأقعده بعد طول مجالدة، ولكنَّه رحمه الله كره القعود وكره الراحة والكسل ولو كان بسبب المرض الشديد واستمر يتابع نشاطه بإلقاء دروسه الجامعية، ومحاضراته التوجيهية لطلاب كلية الشريعة في "قاعة البحث"، ولقد ألقي خلال مرضه هذا أهم محاضراته العلمية على مدرج جامعة دمشق منها محاضرته عن "اشتراكية الإسلام" التي استمر إلقاؤها أكثر من ثلاث ساعات، وقد طبعت فيما بعد في كتاب كبير،ومنها أيضًا محاضرته العلمية الرَّائعة عن "المرأة بين الفقه والقانون" التي استغرق إلقاؤها كذلك أكثر من ثلاث ساعات، وقد طبعت أيضًا في كتاب كبير فيما بعد.
كما استمر يمد الفكر الإسلامي بكل جديد من فكره وعلمه، ويمد الشباب المسلم بالتوجيه والوعي، ويعالج أهم مشكلات العالم الإسلامي، كل ذلك على صفحات مجلة (حضارة الإسلام).
فألَّف القسم الاجتماعي من كتابه ((هكذا علمتني الحياة))، وهو في مستشفي المواساة عام 1962م، وكان يختلس القلم والقرطاس في غفلة من أعين الأطباء الذين شدّدوا عليه في ضرورة الابتعاد عن التفكير والقراءة والإخلاد إلى الرَّاحة التامة، فكان هذا الكتاب من أروع كتبه، وأطرفها لما حواه من الحكمة والتجارب والإرشاد والتوجيه السَّديد والرَّأي الرَّشيد والبلاغة الرائعة.
وفي هذه المدَّة أيضًا طبع كتابه ((القلائد من فرائد الفوائد))، وهو مختارات من بطون أمهات كتب الأدب والفقه والتاريخ، وكذلك طبع كتابه العلمي الكبير ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي))، وهو أثر علمي خالد في الدفاع عن السنة ومكانتها وفي الرد على خصومها من المستشرقين والمغرضين.
وفي يوم السبت (27/5/1384هـ) الموافق لـ(3/10/1964م) انتقل المجاهد العامل والداعية الصابر، الأستاذ الدكتور مصطفى حسني السباعي إلى جوار ربِّه بمدينة حمص، بعد حياة حافلة بالجهاد المتواصل، وقد شيعت جنازته في احتفال مهيب وصلّي عليه في الجامع الأموي بدمشق.