من المعلوم أن ديننا لم ينظر إلى الأعمال نظرة مقتصرة على ظواهرها فقط، بل تجاوز الظاهر ليحكم على صحته ومكانته من النية والقصد المصاحب له، فنجد بعض الأعمال لها منزلة رفيعة سامية، في حين أن البعض الآخر لا قيمة له بل ربما يكون وبالاً على صاحبه ذو عواقب وخيمة.
ولهذا فالنية والقصد لها تأثير في الأعمال، فالأعمال بلا نية مجرد حركات معينة لا تحوي أي مضمون، لكنها بالنية تكون ذات معنى وقيمة. قال ابن عطاء السكندري: (الأعمال صورة قائمة، وأرواحها سر الإخلاص فيها).
والنية تختلف بين شخص وآخر، فالبعض قد يقصد في عمله رضوان الله وطاعته، ونيل الأجر والثواب منه سبحانه، دون أدنى اعتبار لرضا الناس أو سخطهم، وهذا ما يعرف بالإخلاص، فالمخلص لا يقصد في أي فعل من أفعاله إلا تحقيق رضا الخالق دون النظر إلى المخلوق.
وفي نفس الوقت، هناك من يقصد أن يرضي الناس ولو كان بسخط الله، أو يشرك إرضاء الناس مع إرضاء الله، وهو الرياء الذي حذرت منه النصوص الشرعية.
ومن أنواع الرياء، داء خطير، ينتشر في بيئة الدعاة إلى الله، والداعين إلى الالتزام بشرعه ونهجه، وهو داء الشهرة، ذاك الذي يجعل المرء يبتغي رضا الناس، ورأيهم في أعماله، ويتطلع للقيام بأي فعل يجعله محبوباً بينهم، حتى لو كان ذاك الفعل واحداً من الطاعات، لكنه يختلف عن المخلص بأنه يقصد إرضاء الناس، ويحرص على تعريفهم بأعماله التي يقوم بها، سراً وعلانية.
الإخلاص وابتغاء الشهرة، لا يلتقيان بالقصد، وقد يلتقيان في النتيجة كما سيتم بيانه لاحقاً. لكن وقبل الخوض في ذلك لا بد أن نؤكد أن أي عمل لا يبتغي به صاحبه وجه الله فهو هباء منثور، لأنه فقد قيمته المعنوية ومضمونه الذي يرتقي به.
وهذا قد أكدت عليه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، منها على سبيل المثال:
- قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، (سورة البينة:5)
- وقال تعالى: {فاعبد الله مخلصاً له الدين}، (سورة الزمر : 2)
- وقال تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً}، (النساء: 146)
وهنا نلاحظ أهمية الإخلاص، فالله سبحانه هو من أمر بتحقيقها والاستمرار عليها في العبادة وفي أي عمل، وهل يأمر الله بشيء ليس مهماً في حياتك يا مسلم.
إن المخلص عالي المرتبة، رفيع المكانة، لأنه جعل قصد عمله طاعة الله، وبالتالي لا يستوي هو ومن تاه في ظلمات الرياء والشهرة والنفاق.
وقد أكد على هذا حبيبنا المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة، منها:
- "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (متفق عليه).
- " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" (رواه مسلم)
وهنا بيان من المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بأن الأعمال دون إخلاص لنواياها لا تحمل ذاك الأثر، ولا تلك المنزلة، وفي هذا حث للمسلم على أن يتحرى الإخلاص في نيته لأي عمل يقوم به، مهما كانت طبيعته وماهيته.
قال الجنيد: (الإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيمليه).
ويقول المحاسبي: (الإخلاص هو تجريد قصد التقرب إلى الله عزوجل من جميع الشوائب، وقيل هو إفراد الله عز وجل بالقصد بالطاعات).
أما الشهرة والرياء، فإنها من أخطر الآفات التي تعترض المرء، ومن أكثر الأمور التي تذهب بأجر الأعمال وبركتها ومنزلتها.
فالبعض قد يقصد أن يعرف بين الناس بعبادته أو حسن صوته في القرآن، أو كرمه وجوده، أو غير ذلك من أصناف العبادات والطاعات. ولهذا يحرص ذاك المسكين على أن يشرك رضا المخلوق مع رضا الخالق. مع أن المخلوق لا يملك شيئاً لذاك الذي يسعى لإرضائه، لكنها تلك النفس المريضة التي تبغي إرضاء من لا حول له ولا قوة. ولنتأمل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد. فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله. فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به، فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" (رواه مسلم)
تخيل يا مسلم، كيف كانت نتيجة من قصد الرياء والشهرة والسمعة يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فالجهاد وقراءة القرآن والصدقة، كلها لم تنفع، لأن صاحبها جرّدها عن مضمونها وجوهرها، فكانت العاقبة وخيمة، والعياذ بالله.
إن هناك فرق بين أن يقصد المرء الشهرة والرياء ابتداءً، وبين أن تأتي تلك الشهرة نتيجة طاعتك لكنك لم تقصد أن ترضي الناس بها.
فكثيرٌ من الصالحين والعلماء والعبّاد عرفوا بين الناس، واشتهر صيتهم بين الخلق، وهذا ليس قدحاً فيهم، ولكنه امتحان لصاحبه، فإما أن يجعل إرضاءهم غاية يبتغيها، وهنا وقع في مصيدة الرياء، أو لا يقصد بعمله إلا طاعة الله دون اعتبار لرضا الناس، ورأيهم في ذاك العمل.
قال بعض العارفين: (صحح عملك بالإخلاص، وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة، وما دام العبد يراقب الناس ويهابهم لا يتحقق إخلاصه أبداً). وقال بعضهم: (لا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق).
ولهذا فإذا ابتلي العبد بامتحان الشهرة بين الناس، فعليه أن ينسب الفضل إلى الله دائما، فهو بشر، لم يستطع الوصول إلى ما وصل إليه لولا توفيق الله له، فالفضل أولاً وأخيراً يرجع إلى الله مولاه الحق.
بل إن من صور الإخلاص هنا، أن يزداد المرء افتقاراً إلى الله، وتواضعاً للخلق، وأن يخجل من أعماله ولا يتباهى بها أو يتكبر على الآخرين، لأنه فعل كذا وكذا.
ولهذا فإن الإخلاص، عبادة تحتاج إلى إتقان، والشهرة داء تحتاج إلى نية مخلصة، وعزيمة صلبة، وافتقار وتواضع دائم. وإن من يبتغي الشهرة والرياء، فإنه بلا شك سيأتي عليه اليوم الذي ستزداد فيه بوصلة أعماله انحرافاً، فيترك العمل بالطاعات إرضاءً لمن يبغي إرضاءهم، في حين أن المخلص يستمر عمله وتزداد منفعته، لأنه ربط غايته بربه، فالله غايته، وإرضاؤه أغلى ما يريد ويصبو إليه.