قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (( لأعلمنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً، أما إنَّهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل ما تأخذون، ولكنَّهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
( رواه ابن ماجه في سننه، رقم:4245، عن ثوبان رضي الله عنه).
معنى الحديث:
الحديث يدعو صراحة إلى دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلن، والخلوة والجلوة، ولكي تستقر هذه الحقيقة في ضمير المسلم، سلك النبي صلى الله عليه وسلم سلك الحكاية، فأخبرنا عن جماعة من أمته يأتون يوم القيامة بحسنات كذرات الرّمال وحبات الحصى، بيد أنها لاتزن عند الله جناح بعوضة، والسر أن أصحابها إن خلوا بمحارم الله انتهكوها.
والمقصد من وراء هذه الحكاية الاعتبار وتدارك الأمر فلا نقع فيما أخبر عنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكي نطبق الحديث لدينا وقفتان في الوسيلة للوصول لمراقبة الله سرّاً وعلناً.
أولاً: الوسائل التي تعين على تنشئة ملكة المراقبة في النفس:
1.اليقين الكامل بأن الله عز وجل عالم بالسر وأخفى، فلا فرق في علمه بين ما خفي وما بان، بل هو سبحانه يعلم بما يخفيه في نفسه قبل أن يقع في نفسه ولهذا قال البعض أن (أخفى) في قوله تعالى: {يعلم السر وأخفى} ]طه:7 [ ،هو السر قبل أن يوجد، فلا شيء أخفى من السر إلاَّ أن يراد هو ما قبل كونه سرّاً قبل أن يوجد.
2.اليقين الكامل أن الله عز وجل يحصي عليه كل ما يقع منه، وسيجازيه بالسوء سوءً قال تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}. ]الكهف:49 [ .
3.اليقين الكامل أنه لولا حلم ورحمة الستار سبحانه لفضحه وأنه سبحانه ويمهل ولا يهمل، فلا يأمن مكره سبحانه، لذلك يسارع للتوبة قبل أن يوافيه قضاء الله بأن يكشف الستر عنه.
ثانيا: الوسائل التي تنمِّي ملكة المراقبة وتزكيتها في النفس:
1.المواظبة على الطاعات من فرائض ونوافل وذكر ولله بجل أنواعه، والتأمل في النفس والكون حتى يدرك مدى ضعفه أمام قدرة القادر.
2.لزوم الجماعة والعيش معها، وعدم التخلي عنها ليقطع الطريق على الشيطان فلا يدعه ينتهز فرصة من تفرد المرء وخلوته.
ما يستفاد من الحديث دعوياً وتربوياً:
1.لزوم مراقبة الله في كل ظرف وكل حين، وهي بإذن الله تقي من الزلل وانتهاك حرمات الله، ولنتذكر قصة المربي مع تلامذة حين أمرهم أن يذبحوا فرخا في مكان لا يراه فيهم أحد، ففعلوا جميعاً إلاَّ واحد، وقال لشيخه: (كنت أمرتني أن أذبحه في مكان لا يراني فيه أحد، فبحثت ولم أجده، كنت إذا دخلت البيت وجدت هذا الأحد معي، وإذا صعدت فوق السطح وجدت هذا الأحد معي، وإذا ذهبت في الفلاة وجدت هذا الأحد معي، فسأله شيخه: من هذا الأحد ؟؟؟ فأجاب: الله).
2.دور الحكاية في تثبيت المعاني في النفوس وتمكينها من المعاني المراد إيصالها، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}. ]يوسف:111 [ .
3.ضرورة لزوم الجماع والتخلق بأخلاقها، فهي توظف الجهد البشري كله، ولا يترك للشيطان ثغرة يضنك بها حياته، قال عمر رضي الله عنه: (لا إسلام إلاَّ بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، ولا طاعة إلا ببيعة).
4.وجوب المحافظة على الحسنات التي سعى المسلم في بنائها فلا يضيعها بانتهاك حرمات الله، وإلا كان كالسفيه يجمع المال ثم يحرقه.
- من كتاب (( توجيهات نبوية على طريق الدعوة)) للشيخ سيد نوح رحمه الله، مع بعض التصرّف.