جاهلٌ من يظن أنَّ الدعوة إلى الإصلاح والسير في طريق الأنبياء، يكون بلا ابتلاء، { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ }[العنكبوت:2].
وأشدُّ منه جهلا من يظن أنَّ المجد والخلود في ذاكرة التاريخ وضمير الأمم يتحقَّق دون تضحية وفداء.
فالأمم لا تقاس إلاَّ بتاريخها وبطولاتها وأمجادها، ولا يصنع المجد والبطولة والتاريخ إلاَّ أفراد الرجال، وأفذاذ الأبطال، فالأمم إذن برجالها، والرجال بتضحياتهم وفدائهم.
كيف سيكون وضع تركيا لولا رجال كأربكان وأردوغان وغول وأوغلو الذين قادوا صحوتها؟!
وكيف ستكون حال ماليزيا لولا مهاتير محمَّد الذي قاد نهضتها؟!
وكيف سيكون حال البوسنة لولا علي عزَّت الذي قاد استقلالها؟!
وكيف ستكون إيران لولا علي شريعتي والخميني اللذان قادا ثورتها؟!
وكيف سيكون تاريخ جنوب أفريقيا لولا مانديلا الذي قاد حركة تحرّرها؟!
وكيف سيكون حال الهند لولا غاندي ونهرو..إلخ؟!
إنَّها تجليات الأمم بأفرادها، وتجلّي الأفراد بأممهم، حين ينفخون فيها من أرواحهم، وتهبهم من روحها، لتحيا هي بهم، ويموتوا هم من أجلها، ليخلدوا في ضميرها وذاكرتها وسفر خلودها؟!
إنَّهم أفراد عاشوا حياة طبيعية كغيرهم، حتَّى إذا آمنوا بقضايا أممهم وعاشوا آمالها وآلامها، وتحمَّلوا في سبيلها صنوف التعذيب والتهجير والسجن والفقر، فإذا العاقبة تكون لهم في حياتهم وبعد موتهم، وإذا آيات الله تظهر على أيديهم، وتتجلَّى قدرته سبحانه، فيقصم الجبارون والمتكبرون على يد المظلومين المستضعفين، كما وعد سبحانه { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ }[الحج:60]، ليعلم الخلق أنَّ الله هو القاهر فوق عباده، وأنَّ نواصي الخلق كلهم بيده، وأنَّ الملك له وحده، وأنه لا يرضى الظلم؛ ((يا عبادي، إنِّي حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)، وأنَّه يقصم الظالم ولو بعد حين ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته))، فإذا عروش الملوك الزائفة تتهاوى، وإذا جيوشهم تتوارى، وإذا المستضعفون في سجونهم يصبحون أئمة وسادة، ورؤساء وقادة، { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }[القصص:5]. وليتحقق وعد الله الذي لا يخلف وعده للمظلوم : ((وعزتي وجلالي لأنصرنَّك، ولو بعد حين)).
لقد خرج علي عزت بعد ثمانية عشر عاماً قضاها في سجون الشيوعية في يوغسلافيا ومعتقلاتهم مظلوماً مقهوراً، فإذا هو يصنع على عين الله طول هذه المدَّة، ويدخره الله في السجن، ويحفظه من كيد أعدائه الذين كادوا يعدمونه، ليقود بعدها شعب البوسنة نحو الحرية والعودة إلى الهوية، وليصبح أول رئيس للبوسنة بعد استقلالها، وبطلها الخالد في ذاكرتها.
وقاد الخميني نضال عشرين سنة ضد الشاه، وبعد سجنه، وطرده من بلده، ونفيه خمسة عشر عاما، عاد إلى إيران عزيزاً منيعاً، قائداً للثورة ومرشداً للجمهورية، وإذا الشاه يخرج منها ذليلاً يبحث عن مكان يلجأ إليه فلا يجده! وإذا المستضعفون في سجون الشاه مدَّة أربعين سنة هم الذين يسودون ويسوسون الشعب الإيراني، بعد أن كانت استخبارات الشاه السافاك تجرعهم صنوف العذاب، وإذا رافسنجاني وخامنئي اللذان قضيا زهرة شبابهما في السجون، يقضيان بقية عمرهما في العروش والصروح.
وخرج مانديلا من السجن بعد سبع وعشرين سنة، قضاها بين جدران سجنه يحفر الصخور، ويسام سوء العذاب، فيدخره الله ويحفظه من القتل والاغتيال في السجن، ليخرج منه، وليحرّر شعبه ويرفع عنه التمييز العنصري، وليكون أوَّل رئيس لجنوب أفريقيا من السود.
إنَّها سنن الله التي لا تتخلَّف أبداً، ولا تحابي أحداً : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[الرعد:12].
إنَّها قصة موسى والمستضعفين من بني إسرائيل، في موجهة فرعون والملأ من قوم فرعون، جعلها الله آية للعالمين، تتكرر في كل زمان ومكان عبرة وعظة للمؤمنين من أهل الحق { تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ }[القصص:2-6].
لقد نجَّا الله موسى الصبي الذي ألقته أمّه في اليم خوفاً عليه من فرعون، وربَّاه في قصر فرعون مع شدَّة حذر فرعون على ملكه، فكانت نهايته على يديه، ليعلم العالم أنَّ للأرض ملكَ حقٍّ عدل هو الله .
إنَّ من يعرف حقيقة الحياة وغايتها يعلم أنَّ السعادة محرَّمة فيها على الجبناء، وأنَّ من طلب الموت فيها وهبت له الحياة، وأنَّ الإنسان حيث يضع نفسه، فمن أراد المجد كتب له المجد، ومن أرد الخمول وجده ((إن الله يحب معالي الأمور ويكره سَفَاسفها)).
وكما قال العلاَّمة الزبيري اليمني:
خرجنا من السجن شمّ الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمرّ على شفرات السيوف ونأتي المنيَّة من بابهــا
إنَّ الحياة متاع غرور، وشيءٌ حقير، لا تستحق أن يعيشها الإنسان ليموت ويفنى، بل يموت فيها ليحيى ويبقى، ويخلد خلوداً أبديا دنيوياً وأخروياً.
لقد ولد عمر المختار ساعة شنقه ليحيا حياة أبدية في ضمير الأمَّة، كما ولد سيِّد قطب وخلد خلوداً أبديّاً في ضمير الأمَّة ساعة إعدامه، حين مات الملايين في عصرهما ومن بعدهما، لما عاشوا لأنفسهم وأسرهم فلا حس ولا خبر!
لما سلكنا الدرب كنا نعلم أنَّ المشانق للعقائد سلَّم!
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً إنَّ الحياة عقيدة وجهاد!
إنَّ الدعوة للإصلاح في الأرض هي وظيفة الرسل والأنبياء، فإنَّ الله إنما أرسل رسله وأنزل كتبه للإصلاح وتحقيق العدل والقسط،كما قال تعالى عن شعيب :
{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }[هود:88]. وكما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }[الحديد:25].
وجعل لذلك ثمنه من الشدة والخوف والابتلاء، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ]البقرة:214[، ولهذا كان الأنبياء أشدّ الناس بلاء كما في الحديث ((أشدُّ النَّاس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرَّجل على قدر دينه))، وإنَّما كانوا كذلك لأنَّهم جاءوا لإصلاح أحوال أممهم، وتغيير أوضاعها، وما يستتبع ذلك من تصدِّي الملأ والمفسدين في الأرض لهم، وإيذائهم بكل صنوف الأذى ابتداء بالسب والطعن والسخرية، وانتهاء بالسجن والقتل، كما قال تعالى في شأن المفسدين من اليهود وأحبارهم والملأ منهم { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]. وقال تعالى في شأنهم أيضاً : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[آل عمران:21].
لقد جعل الله بني إسرائيل مثلاً لمن بعدهم من الأمم، في حال ضعفهم حين نجَّاهم الله من فرعون وملئه، وفي حال قوتهم وبغيهم بعد ذلك حين جعلهم ملوكا، فمع زعمهم أنهم أهل الله وأبناؤه وأحباؤه وشعبه الذي اختاره واصطفاه، إلاَّ أنَّهم وباسم الله ودينه يقتلون الأنبياء، ويقتلون الذين يأمرونهم بالعدل والقسط من الصالحين والربانيين!
وقد بلغ بهم عصيانهم وطغيانهم أن سعوا بقتل النبّي يحيى وعيسى، وحرَّضوا الرومان عليهما!
لقد قص الله على نبيه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم قصص الأنبياء من قبله عبرة وسلوة، وعظة وقدوة، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111]، وقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90].
فمنهم من ابتلاه الله بقومه وسخريتهم وإذائهم له كنوح: { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}[هود:38].
ومنهم من ابتلاه الله بالإحراق بالنار كإبراهيم: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ}،[الأنبياء:68].
ومنهم من كاده قومه وتآمروا على تهجيره وإخراجه من أرضه { قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[الأعراف:82].
ومنهم من ابتلاه الله بالسجن كيوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:32]، { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42].
إنَّ كلَّ هذه المحن التي تعرَّض لها أشرف الخلق وأكرمهم وأحبّهم عند الله تعالى، إنَّما هي دليل على أنَّ طريق الأنبياء محفوف بالابتلاء، إذ إصلاح الإنسان لشؤون نفسه وأهل بيته أمر في غاية المشقة، فكيف بإصلاح حال أمة من الأمم، وتغيير أحوال المجتمع كله؟!
ومن هنا جاءت سورة العصر لترسم طريق النجاة في الدنيا والآخرة، بعد أن حكم الله على الإنسان فرداً وجماعةً بالخسارة : { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:1-2].
فمنذ ولادة الإنسان وبداية عصره - أي عمره – وهو في نقص وخسارة إلى وفاته، وكذا كل أهل عصر هم في نقص حتَّى يردون إلى أرذل أعمارهم ثم يفنيهم الله، فتحقق أنَّ الجميع فرداً وجماعة في خسارة ونقص إلاَّ من اتصفوا بأربع صفات { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا } بالله وبالغيب واليوم الآخر والجزاء والحساب، وأنَّ أعمارهم محدودة وأيامهم معدودة، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. كما أمرهم الله عزَّ وجل وذلك بصلاحهم وإصلاحهم في الأرض وعدم إفسادها، { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} بصدعهم وقيامهم به، كما في الحديث ((وأن نقوم بالحق لا نخاف في الله لومة لائم))، إذ القيام بالحق أشدّ من عمل الصالحات التي قد يقوم بها كل إنسان صالح سواء كان قويّاً أو ضعيفاً، بخلاف القيام بالحق ونصرة الحق والتصدي للباطل، فهي درجة أسمى لا يسمو إليها إلاَّ المؤمنون بالحق، المجاهدون في الحق،
{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على قيامهم بالحق وما يكون فيه من مشقة وتضحية وفداء.
إنَّ هؤلاء هم الذين جاءت فيهم البشارات النبوية فهم الطائفة المنصورة ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)).
وهم الغرباء المصلحون في الأرض الذين قال عنهم النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء))، قيل: من هم يا رسول الله، قال: ((الذين يصلحون ما أفسد الناس)).
وهم المجدِّدون في كل عصر كما في الحديث: ((إن الله يبعث على رأس كلّ مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها))، سواء كان فرداً أو جماعة، وسواء جدّدوا الدين وأحيوا معالمه تجديداً جزئيّاً، أو كليّاً.
وهم سادة الشهداء ((سيِّد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)).
وهم الغرس الذين يغرسهم الله في كلِّ زمان يستعملهم في طاعته ونصرة دينه ((إن الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته)).
فهنيئاً للقائمين بالحق من الطائفة المنصورة في كلِّ عصر، وهنيئاً لمن كان من المصلحين والغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس في كلِّ عصر، وهنيئا للمجدِّدين للدين ومعالمه في كلِّ عصر، وهنيئا لك يا أبا عبد الله.