وما بين هذين النموذجين يعوّل على الأمِّ أن تربي القادة والجنود والعلماء، أو تفسد فتنتج أشباه الرِّجال، رجال يولدون ويموتون دون أن يزيدوا شيئاً في قيمة الأمَّة، إن لم يكونوا سببا في انتكاسها، وقد وعى فلاسفة الغرب خطورة دور المرأة في التربية فقال أحدهم: (إذا أردت جيلا عظيما فعليك بتربية المرأة لأنها هي التي تصنع العظماء)، وقال الشاعر أمرسون عن تعريف الحضارة: (هي نفوذ النساء الطيّبات)، والطيِّبة هنا لا تعني السذاجة أو البلاهة وترك الأمور للتياسير، فنفوذ الطيبة يعني توجيه الجهود والأخذ بالأسباب برؤية مستقبلية لتحقيق النفع والخير للآخرين، وفي مرحلة التخبّط والاستيراد الأعمى للنظريات النسوية والجندرة في بلادنا أصبح دور الأم في تربية أبنائها ظلماً لحقوقها وتحقيراً لشخصيتها واستصغاراً لقدراتها، بينما عاد الغرب في كثير من دوله بعدما ذاق مرارة انعدام التربية للإعلاء من شأن الأمومة ووظائفها، حيث تحتفي برامجهم الإعلامية بالأم على أنَّها أعظم الموظفات الماهرات بدوام متصل على مدى أربع وعشرين ساعة سبعة أيام في الأسبوع "a mother 247“ وتتوالد البرامج لمربيات محترفات يعلمن الأمهات كيفية التواصل مع أبنائهن وتنمية مواهبهن والسيطرة على الغضب والعناد...إلخ
ولو لم تكن التربية من الأهمية بمكان، لكان أولى بالدول المتقدمة التي تنادي بحرية الفكر والممارسة والتفرد أن لا تلقي لها بالاً.
وبالعودة إلى وصية الخنساء لأبنائها قبل خروجهم للقادسية قالت: (إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلاّ هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدَّ الله للمسلمين من الثواب العظيم في حرب الكافرين، واعلموا أنَّ الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غدا فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، ولله على أعدائه مستنصرين).
أمٌّ طاهرة في ذاتها وفكرها ومدركة لدورها مع أبنائها، وهذا الجلد منها والاستجابة من أولادها ليسا وليدي الموقف واللحظة الحاسمة، فلا يقدر عليهما إلاَّ أم ربَّت نفسها وأولادها على علوّ الهمَّة سنيناً طوالاً، حتَّى بلغوا أشدَّهم جميعاً، أم مجاهدة وأبناء شهداء، وإلاَّ لكان موقفها بعد استشهاد أولادها ضرباً من الخيال أو جنوح الفطرة، عندما حمدت الله على استشهادهم جميعاً، وكان أن حظيت كما لم تحظ أيّ أم وأولادها بذاكرة افتخار وتقدير على مرّ الأيام.
ماذا كان بين الأخت التي بكت أخاها صخراً حتَّى تلفت، وبين الأم التي ما ذرفت دمعة سوى من حنان قلب الأم على أولادها غير نضج في الإيمان وإدراك للمسؤولية التي تتعدى المشاعر الدنيوية التي تعتمل في صدور الأمهات للأبناء من حب وخوف واستحواذ، مشاعر تقدر عليها جميع الأمهات، فيما لا تقدر على ما قدرت عليه الخنساء إلاَّ القليلات، ولذا قيل: إنَّ الحروب والانتصارات تدور في قلوب الأمهات، قبل أن تدور على جبهات القتال، ما بين أمومة الأم وأمومة الوطن والدين والفكرة.
كنا نريد أن نربي أبناءنا لزمان غير زماننا، فإذا بزمانهم يأتي أكثر قتامة وظلاماً وتحدياً على مستوى الأمة، فإذا أردنا أن تتماشى التربية مع روح العصر، فعلى الآباء والأمهات أن يتسلحوا بإدراك رسالية التربية، بحيث يكون من وراء العطاء والمنع هدف يدركه الأولاد، ومن وراء التعليم وتنمية المواهب توظيف لخدمة هدف سامٍ.
إنَّ نعمة الوجود في كنف أسرة يستوجب بالضرورة شعوراً بأسرة كبرى فقد أعضاؤها أمهاتهم وآبائهم وإخوتهم لتصبح الكفالة واجباً وجدانياً وحالة اجتماعية، وليس فقط مادية فجروح الآخرين لا تداوى بفتح الجيب فحسب، ولكن بفتح القلب وصدق الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ قال: ((إنَّكم لن تسعوا النَّاس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق))، [أخرجه البزار وأبو يعلى والطبراني في مكارم الأخلاق من حديث أبي هريرة].
وهذا الفهم الأسري الشامل والمجتمع والأمة الحميمة والتعاضد واللُحمة لا يزرعها في الأسرة إلاَّ الأمّ .
لقد أدركت الأمم والحضارات من قبلنا دور النساء في صناعة النصر، فوصف العماد الأصفهاني دور نساء الإفرنج في صناعة النصر قائلاً: (وفي الإفرنج نساء فوارس، لهن دروع وقوانس، يبرزن في حومة القتال ويستبسلن، وكلُّ هذا يعتقدنه عبادة ويجعلنه لهنَّ عبادة).
فمعركة المرأة الحقيقية هي في تربية الجيل، فإذا فتحت المرأة الثغور تسلل الوهن والأعداء، فتؤتى الأمَّة من قبل النساء.