هذه سهام لصيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعّال على القلوب، فإليك أيّها المحب سهاماً سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب، فاحرص عليها، وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف واستعن بالله.
قالوا: هي كالملح في الطَّعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب، وهي مع ذلك عبادة وصدقة، كما في الحديث الصحيح: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، وقال عبد الله بن الحارث بن جزء: "ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم"، [رواه الترمذي في سننه، وأحمد في مسنده].
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك، لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال أبو عمر النّدبي: "خرجت مع ابن عمر، فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلاَّ سلَّم عليه". [شعب الإيمان للبيهقي]، وقال الحسن البصري: "المصافحة تزيد في المودة".
والنبي صلَّى الله عليه وسلم يقول: "لا تحقرِنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق". [صحيح مسلم].
وفي الموطأ: "أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء"، قال ابن عبد البر: "هذا يتصل من وجوه حسان كلِّها".الوسيلة الثالثة: الهدية
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسَّمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود، بل ومندوب إليه على أن لا يكلّف نفسه إلاَّ وسعها، قال إبراهيم الزهري: "خرّجت لأبي جائزته، فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي: تذكّر هل بقي أحد أغفلناه؟ قلت: لا. قال: بلى، رجل لقيني فسلَّم عليَّ سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير".
انظروا أثّر فيه السلام الجميل، فأراد أن يردّ عليه بهدية ويكافئه على ذلك.الوسيلة الرابعة: الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع
وإيَّاك وارتفاع الصَّوت وكثرة الكلام في المجالس، وإيَّاك وتسيد المجالس، وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة فـ ((الكلمة الطيبة صدقة)) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلاً عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود: "وعليكم السام واللعنة"، فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: "مهلاً يا عائشة، فإنَّ الله يحب الرِّفق في الأمر كله". [متفق عليه].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما" [أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما].
الوسيلة الخامس: حسن الاستماع وأدب الإنصات
وعدم مقاطعة المتحدث، فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتَّى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال: "إنَّ الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأنّي لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد".
الوسيلة السادسة: حسن السمت والمظهر
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: "إنَّ الله جميل يحب الجمال". [رواه مسلم].
وعمر ابن الخطاب يقول: "إنَّه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح"، وقال عبد الله ابن أحمد بن حنبل: "إنِّي ما رأيت أحداً أنظف ثوباً ولا أشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل".
الوسيلة السَّابعة: بذل المعروف وقضاء الحوائج
سهم تملك به القلوب، وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم … فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبَّة الله عزَّ وجل، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس"، والله عزَّ وجل يقول: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، [البقرة:158].
ولله در من قال شعراً:
إذا أنت صاحبت الرِّجال فكن فتى ... كأنك مملوك لكلِّ رفيق
وكن مثلَ طعم الماء عَذباً وبارداً ... على كبد حرى لكل صديق
وقديماً قيل: "عجباً لمن يشتري المماليك بماله، كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه"، وقيل: "ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه".
الوسيلة الثَّامنة: بذل المال
فإنَّ لكلِّ قلب مفتاحاً، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزَّمان، والرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:
"إنِّي لأعطي الرَّجل وغيره أحبّ إليَّ منه خشية أن يكُبَّه الله في النار"، [صحيح البخاري وصحيح مسلم].
صفوان ابن أمية فرّ يوم فتح مكَّة خوفاً من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصدّ عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فيعطيه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه أن يمهله شهرين للدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى حنين والطائف كافراً، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلأ نعماً وشاء ورعاء.
فجعل عليه الصَّلاة والسلام يرمقه، ثم قال له: يعجبك هذا يا أبا وهب؟
قال: نعم، قال له النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "هو لك وما فيه".
فقال صفوان عندها: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلاَّ نفس نبي، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله.
لقد استطاع الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم بهذه اللمسات، وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟ ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتَّى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
الوسيلة التَّاسعة: إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك وسوء الظن بهم، وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم".
الوسيلة العاشرة: أعلن المحبة والمودة للآخرين
حرص صلَّى الله عليه وسلَّم على تكوين مجتمع متحاب، فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أنَّ فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات
فإذا أحببت أحداً أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك، فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس، ولذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه". كما في صحيح الجامع، وزاد في رواية مرسلة: "فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة"، لكن بشرط أن تكون المحبَّة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهرة والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، [الزخرف:87].
والمرء مع من أحب، كما قال صلَّى الله عليه وسَّلم – يعني يوم القيامة -، إذا فإعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب.
فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف، لذلك حرص صلَّى الله عليه وسلَّم على تكوين مجتمع متحاب، فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أنَّ فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات، بل أكَّد صلَّى الله عليه وسلَّم على وسائل نشر هذه المحبة، ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". [صحيح مسلم].
وللأسف، فالمشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب جامد جاف مجرّد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص، والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
الوسيلة الحادية عشرة: المداراة
فهل تحسن فن المداراة؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "أنَّ رجلاً استأذن على النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: يا عائشة، متى عهدتني فاحشاً؟ إنَّ شرّ النَّاس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه". قال ابن حجر في (فتح الباري): "وهذا الحديث أصل في المداراة"، ونقل قول القرطبي: "والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا".
إذن، فالمداراة لين الكلام والبشاشة لمن يخشى أذاه، أولاً لاتقاء لفحشهم، وثانيا لعلَّ في مداراتهم كسباً لهدايتهم بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنَّما في أمور الدنيا فقط، وإلاَّ انتقلت من المداراة إلى المداهنة.
فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرَّجل بما هو فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مداراة الناس صدقة". [أخرجه الطبراني وابن السني]، وقال ابن بطال: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة".