تناولت الآيات الكريمة (28-46) من سورة غافر قصة ذلك الرَّجل المؤمن من آل فرعون، والذي أظهر إيمانه، و اتِّباعه منهج الأنبياء، ورفضه منهج الكفر والطغيان.
فعلى الرغم من تلك الحملة الشرسة التي تعرَّضت لها دعوة نبّي الله موسى عليه السَّلام من قبل فرعون والملأ من حوله، ومحاولات حشد فرعون الرأي العام الشعبي لقتل موسى، تظهر شخصية فذَّة، راسخة الإيمان، صاحبة عقيدة قوية، لتؤثر الآخرة على متاع الدنيا، فتصدح بالحق في وجه الظالم المتكبِّر وأعوانه.
حقيقة مؤمن آل فرعون
اختلف المفسِّرون في حقيقة هذا الرَّجل المؤمن، فبعضهم رأى أنَّه ابن عمّ فرعون، كان يخفي إيمانه، في حين ذهب البعض إلى أنَّه من رجال فرعون، وكان خازناً له، إلى غير ذلك من الأمور.
إلاَّ أنَّ الأقرب إلى الصواب أنَّ الرجل كان ذا مكانة سامية، ومنصب رفيع، فهو من آل الطاغية، ومن العائلة المالكة، والتي تتبع ذاك الذي استبد بسلطته، حتى ظنَّ نفسه إلها، يعبده الناس ويتوجهون إليه.
وما يؤكِّد ذلك، قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28]. فقد نصَّ القرآن صراحة على قرابته لفرعون، ولا حاجة للخوض في الأمور التي لم يفصلها القرآن، كوظيفته واسمه وصلته قرابته، لأنَّها من المبهمات التي لم يرد فيها تفصيل من القرآن أو السنة.
أبعاد ودلالات
إنَّ ظهور هذا المؤمن بعد كتم إيمانه وإخفائه عن فرعون، يعطي لمن يتأمَّل في هذا الأمر دلالات عدَّة؛ منها:
1- زوال الولاءات العشائرية، والارتباطات العائلية، عندما تتنافى مع الإيمان، فمؤمن آل فرعون، كان أمامه خياران؛ إما البقاء على الكفر وتقديم العشيرة والقرابة لفرعون الطاغية، أو الإسلام واتباع موسى عليه السلام، حتَّى لو أدَّى إلى زوال ما تنعم به، وفوات منافع الدنيا.
2- إنَّ هذا الرجل لم تفسد فطرته قربه من الحاكم وصلته به، فهو على الرغم من حقد فرعون على دعوة موسى عليه السَّلام، ومحاربته له ولدعوته، فإنَّه لم يتأثر بذلك الطغيان الفرعوني، بل بقي إيمانه قوياً، يزداد يوماً بعد يوم، وهذا يعني أنَّ المؤمن الحق، لا يُنقص إيمانه كيد الكافرين، وظلم الظالمين.
3- كما أنَّ هذا الرجل كان قويَّ الإيمان، راسخ الاعتقاد، صلباً ثابتاً، والدليل على ذلك، تقديمه الإيمان على متاع الدنيا الزائل، وعرض الحياة الرَّخيص، مقارنة بما عند الله تعالى.
4- أظهر إيمان هذا الرجل، الاختراق الذي أصاب البيت الداخلي لفرعون، ففرعون رغم ادعائه بأنه الإله ولا إله غيره، إلا أنه لم يستطع أن يحمي أنصاره ومقربيه من أن يؤمنوا بتلك الدعوة، التي حاربها بشتى السبل، ليظهر عجز فرعون عن حماية من حوله، فيظهر هذا الرجل المؤمن، لتلحق به بعد ذلك زوجة فرعون نفسه.
5- نجاح موسى في دعوته، حيث استطاع الوصول إلى موقع متقدم، ليكسب أفراداً من طبقة قريبة من قادة الكفر، فجنَّد هؤلاء لصالح الدعوة، ليكونوا عوناً له ليتجنّب كيد فرعون ومكره.
الدعوة للجميع
إنَّ مؤمن آل فرعون، يدلِّل على أنَّ الدَّعوة لا تحتجب عن أناس دون أناس؛ لأنهم من عائلة معينة أو طبقة رفيعة. فالإيمان حينما يدخل في النفوس ويشع نوره في ظلمات الصدور والقلوب، فإنَّها تنشرح لما فيه من حقيقة وتصوّر، وتعلن ولاءها أولاً وأخيراً له ولخدمته والتضحية في سبيله.
كان بإمكان مؤمن آل فرعون، أن يتمتع بدنياه، مستفيداً من صلة قرابته لفرعون، وأن يكون واحداً من تلك الفئة التي عادت الحق وحاربته، حفاظاً على المصالح والمناصب، والجاه والمال، لكنَّه فتح قلبه للحق، فأصبح يخفق بذكر ربّه، مناصراً لذلك النبي الذي عاداه أقرباؤه، مقدّماً ولاية الدين على ولاية القربى والنسب.
إنَّ مؤمن آل فرعون – كما تصوّر الآيات- لم يكن فردا سلبياً، بل كان إيجابياً مبادراً، مؤثراً فاعلاً، باذلاً ما في وسعه لجلب المصالح للدعوة وحمايتها، وإقناع النَّاس بما تحمله هذه الدعوة الربانية المباركة، كما سيتم بيانه لاحقاً.
إنَّ هذه النماذج الربانية الرائعة، تستحق الوقوف على كلّ مفاصل حياتها، وذلك لبيان أثر الإيمان وقوة الاعتقاد في نصرة دين الله ورفع رايته.
وبإذن الله، سنتطرق لمفاصل هذه القصة جميعها في المواضيع القادمة.
----------
مراجع إضافية :
1- قصص القرآن -د.صلاح الخالدي
2- التفسير التربوي للقرآن الكريم : أنور الباز