عام يمضي وآخر يأتي، هذه سنة الحياة، فلكل شيء نهاية، ومهما كانت السنة مليئة ومتخمة بالأمور والأحداث، إلاَّ أنَّ الستار لا بدَّ وأن يسدل عليها، ليبدأ عام جديد.
وكأنَّ هذه الأعوام، ترسل لنا رسالة، بأنَّ أنفاسنا ولحظات عمرنا معدودة. فمهما عشنا من الزَّمن، ومهما أنجزنا وعملنا، إلاَّ أن النهاية بالانتظار، وسيأتي يوم تطوى فيه صفحة كلّ منا، لتعلن انتهاء الحياة، وانتهاء عامنا الحياتي.
إنَّ بعض الناس، غفلوا عن مفهوم مهم، وهو أنَّ كلَّ عام يأتي هو إيذان بقرب انتهاء حياتهم، فاستقبلوا العام بالمعاصي والذنوب، بدل الندم والحسرة على ما فاتهم في العام المنصرم.
وذلك لأنَّهم غفلوا عن غائية إيجادهم في هذا الكون، فتاهوا في ظلمات الطرق، ونسو الطريق المستقيم. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام :153]
فغاية وجود الإنسان العبادة وطاعة الخالق، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وإنَّ التحول عن هذه الغاية ونسيانها، يؤدِّي بالمرء إلى الضياع والتيه، وبالتالي الابتعاد عن المنهج الذي رسم له في حياته.
أعوام انقضت، وفي كلِّ واحد منها، نودِّع أحباباً وأصدقاءَ ملؤوا حياتنا أحداثاً وذكريات، ليبقوا وحدهم فيحاسبوا على ما قدموا من أعمال.
فيا أخي المسلم، هل تفكرت أنك أقرب إلى الموت، وأنَّ أنفاسك المعدودة لابدَّ وأن يأتي عليها يوم تنتهي، فتنتقل من عالم الأحياء، إلى عالم الأموات، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء:88].
لذا لابدَّ وأن نستغل تبدل الأعوام لما فيه خيرنا وصلاحنا. ولما يقرِّبنا إلى الله، بحيث يجعلنا نسير مع موازاة الغاية التي يريدها الله منا.
إنَّ المؤمن الذكي، يجعل هذه الفترة، فترة محاسبة وتقييم، لعلاقته مع الله، ونفسه وأسرته والناس أجمعين.
ولهذا فإنَّ بداية كلّ عام، لابدَّ وأن تكون فيها نية جديدة، وعزيمة صلبة للتغيير، تغيير النفوس، وتغيير المحيط والواقع. ولابدَّ للمرء أن يعود إلى ربِّه بالتوبة والاستغفار والندم والحسرة على ما فرط في جنب الله، وفي حق نفسه وأسرته ومجتمعه.
لابد وأن نجعل قوله صلَّى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك)، [رواه الحاكم ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي]. نصب أعيننا دائماً، فكلّ أمر لابدَّ وأن يحين انتهاؤه، مهما طال وكثرت مدته وأحداثه.
إنَّ الناس يتفاوتون بقدر تفاوت عزائمهم ونواياهم، وإنَّ السنوات والشهور والأيام، مسرح لإثبات صدق النوايا، وصحة العزائم وقوتها. فاجعل الأيام القادمة، تشهد مدى التغيير، والتجديد في جميع مجالاتك العبادية والحياتية.
إنَّ السلف الصالح رحمهم الله، كانوا يستشعرون هذه المعاني، ويؤكدون عليها في كثير من الأحيان، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله).
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء كندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي).
وهذا الحسن البصري رحمه الله يقول: (يا ابن آدم إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك).
لهذا أخي الحبيب، احرص على أن تبادر إلى إصلاح نفسك، والتوبة ممّا وقعت فيه، فإن من يدرك نفسه في الدنيا يفوز وينال الدرجات العليا في الآخرة، وأما من يتركها دون كبح لجماحها فإنه يتحسر ويندم يوم لا ينفع الندم.
إنَّ الأعمال بالخواتيم، وإنَّ ما فات يمكن إصلاحه والرقي به، ولهذا أصلح جميع شؤون حياتك بما يرضي الله ..
- ففي علاقتك مع الله: اعزم على أن تتوب إليه من المعاصي والذنوب، وأن تزيد من طاعتك وعبادتك، فلعلَّ هذا يكون آخر عام تعيشه.
- وفي علاقتك مع نفسك: احرص على أن تطوّر نفسك، روحياً، وعلمياً، وعملياً، فالمسلم لا بدَّ وأن يرتقي بنفسه، وأن لا يرضى بأن يظل على نفس المستوى طول حياته.
- وفي علاقتك مع أسرتك: قيّم علاقتك مع والديك، وزوجتك، وأولادك، وإخوانك، اجعل هذه السنة سنة تربوية بامتياز، واحرص على تحديد جوانب الخلل في هذه العلاقات، وبادر إلى إصلاحها، وسدّ مكامن النقص فيها، واعزم على أن تعالج هذه المشاكل وفق رؤية هادئة متوازنة.
- وفي علاقتك مع مجتمعك: احرص على أن تكون منبراً من منابر النور، وداعياً إلى دين الله، والالتزام بنهجه وشرعه، بحكمة واتزان، وفهم وروية، فهذه من أحسن الأعمال، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وعندها ستكون واحداً من عوامل إصلاح المجتمع، ومساعداً على النهوض بأمة طال نومها وسباتها.
ولهذا، فإنَّك أخي المسلم حينما تجعل هذا العام، عامَ تغيير وتطور ورقيّ، فإنَّك ستجعل من الأيام المتبقية من حياتك، أياماً مليئة بالخير والبركة والقرب إلى الله، وعندها تحقّق الغاية التي يريدها الله منك، فتكون من الفائزين، ممَّن ابيضَّت وجوههم وأشرقت يوم القيامة.