استشعار المسؤولية وأخذ الأمانة بحقِّها، وإحسان الصلة بالله تعالى في السر والعلن.. تلك كانت بعض وصايا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين إلى مسؤولي العمل التربوي خلال رسالته الأسبوعية، أكَّد خلالها على عظم المهمَّة الملقاة على المربين في شحذ همم الأفراد وتربيتهم بشكل سليم، وربطهم بالدعوة وبرامجها لا بالأشخاص.
وشدَّد الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين خلال رسالته على ضرورة غرس روح الانتماء لدين الله ولدعوته، وللوطن وللأمَّة حتَّى يفخروا بانتمائهم واجتباء الله لهم، ومن ثم يستعذبوا كلّ جهد ومشقة قد تعترضهم في مسيرتهم، وكذلك القيم الحاثة على الإيجابية والذاتية وعلو الهمَّة، وهذه نص الرِّسالة:
الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلاةً وسلامًا على سيِّد خلق الله، سيِّدنا وإمامنا وقدوتنا، محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وبعد..
أحبابي في الله..
اعلموا أنَّكم على ثغر عظيم من ثغور دعوتنا المباركة، وأنكم تحملون مسئوليةً عظيمةً أمام الله سبحانه وتعالى، مستمدةً من الأمانة التي تحملونها بتربية إخوانكم، وتعهُّدهم بالرِّعاية والتوجيه، وفق نهج الإسلام القويم، وعلى أسس مبادئ دعوتنا المباركة، وهي أمانة تنوء بحملها الجبال.. {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب:72]، فاستشعروا أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقكم، وخذوا هذه الأمانة بحقِّها، وأدّوها كما يحب ربُّكم ويرضى، وثقوا في مثوبة ربِّكم ورضوانه وعونه.
وأحسنوا صلتكم بالله عزَّ وجلَّ في السر والعلن، وخذوا بأنفسكم وإخوانكم نحو ما يُرضي ربكم، وكونوا حيثُ يريد ربكم في كلِّ وقت وحين، واعملوا على رفع الجانب الإيماني والتعبدي في نفوسكم ونفوس إخوانكم، ولتولوه أهمية قصوى من جهدكم ووقتكم وبرامجكم، ولتحوِّلوا جميع أعمالكم وحركاتكم وسكناتكم إلى عبادة لله سبحانه وتعالى، ولتحرصوا على ترسيخ الاهتمام بالعبادات وقيمها وحقيقتها في النفوس ومردودها التربوي على الفرد والجماعة والأمة كلّها؛ ومنها: المحافظة على الصلوات في جماعة، وقيام الليل، والصِّيام، وتلاوة القرآن، والصدقة، وكثرة ذكر الله، وبرّ الوالدين وصلة الرّحم، وكلّ أنواع الخير، واعلموا أنَّه كلّما كان لكم حال مع الله لا يعلمه إلاَّ هو فسييسِّر لكم الأمور بفضله وكرمه ومنته، وسيسخر لكم جنوده التي لا يعلمها إلاَّ هو.
ولتربُّوا إخوانكم على حبّ المساجد وارتيادها والمكث فيها؛ فهي الملجأ والملاذ، وهي المنطلق لكلّ خير، فكونوا مسجديِّين؛ عبادةً لله، واقتداءً بسنة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم والصَّحب والسلف الكرام، فتتعلق قلوبكم بالمساجد، كما تعلَّقت بها قلوبهم.
ولتحرصوا على تطبيق المعنى الأسري والاجتماعي للأسرة؛ لتكون أسرة بكل المعاني الأسرية والاجتماعية فلتتعايشوا ولتتزاوروا ولتتحدثوا وتتناقشوا ولتمرحوا ولتخرجوا في رحلات متنوعة: خلوية.. قمرية.. وغيرها ولتفتحوا قلوبكم لبعضكم؛ حتى تكون الأسرة كلها كتابًا مفتوحًا، ولتحققوا أركانها من: تفاهم، وتعارف، وتكافل.
ولتربطوا الأفراد بالدعوة ومبادئها وبرامجها ومنهاجها لا بأشخاصكم؛ وإلاَّ فإنَّه بداية الخطر عليكم وعلى دعوتكم.
كما أننا نريد الأسرة المنتجة إنتاجًا دعويًّا ومجتمعيًّا بحقٍّ، يُرى أثره في كلّ دوائرها المحيطة بها، ولتكن منارة يُقتدى بها في محيطها، وليكن شعارها: (لن يسبقنا إلى الله أحد).
كما نريد ترسيخ أكبر قدر من القيم الإيجابية الواردة في خطتكم وبخاصةٍ التي تبثُّ الأمل في النفوس.. نفوس الأفراد؛ لينطلقوا بها في المجتمع مغيِّرين وقائدين للغير، ودالِّين على الخير، وباذلين ومضحِّين لله في كلِّ وقت وحين، ونفوس المجتمع؛ ليتحرك بإيجابية نحو الخير والصَّلاح والإصلاح.
واغرسوا في إخوانكم روح الانتماء لدين الله ولدعوته، ولوطنهم وأمتهم؛ حتَّى يفخروا بانتمائهم واجتباء الله لهم، ومن ثم يستعذبوا كلّ جهد ومشقة قد تعترضهم في مسيرتهم، وكذلك القيم الحاثة على الإيجابية والذاتية وعلو الهمَّة.
إخواني وأحبتي..
تحلَّوا بالقدوة الصالحة في كل أقوالكم وأفعالكم، وخير قدوة لنا جميعًا هو المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}.[الأحزاب:21]، فتحلوا بخلق الرَّسول العظيم صلَّى الله عليه وسلَّم وصفاته الكريمة وأفعاله الطيِّبة، واحرصوا على أن تكونوا خير قدوة لإخوانكم، وأن تعطوا من أنفسكم القدوة والأسوة الحسنة، واحرصوا على أن يجدوكم أمامهم في كل عمل أو تكليف تكلفونهم به، واحذروا أن تكلفوهم بما لا تفعلون، أو أن يراكم الله أولاً ثم إخوانكم حيث تنهونهم، وليكن نصب ناظريكم تحذير الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف:2-3].
الإخوة الأحباب..
تمثلوا الحقوق التي في أعناقكم، والتي نادى بها الإمام الشهيد حسن البنا- يرحمه الله- حين قال: (وللقيادة في دعوة الإخوان حقّ الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعًا)، وهنا يبرز السؤال الأهم: كيف يطلب الحق من لم يؤدِّ الواجب؟! فلتؤدّوا الأمانة بحقِّها ولتكونوا خير مؤدِّين لهذه الحقوق.
واعلموا أنَّ من أهم خصائصكم كمربين سلامة النفس من الأنانية وحب الذات، فساعدوا إخوانكم، وأعينوهم على أن يؤدُّوا لكم هذه الحقوق بالحب والرعاية والتفقُّد، وتأدية حقوقهم قبل أن تطلبوا حقوقكم.
وبمناسبة الواجب، اعلموا أن المستويات التربوية حقٌّ لمن اجتاز شروط كل مرحلة وفق الأسس والمعايير والضوابط الموضوعة من قبل إخوانكم المربِّين بلا إفراط ولا تفريط، فلا تعضلوا إخوانكم وتضعوا شروطًا وضوابط متعسفة من قبل أنفسكم، وفي المقابل لا تفرِّطوا في حق دعوتكم بتصعيد من لا يستحق؛ فإنها أمانة ومسئولية أمام الله أولاً وأخيرًا.
أحبابي..
إنَّ حبَّكم لإخوانكم لا بدَّ أن يكون صادقًا وعمليًّا ومحسوسًا من قبلهم؛ فالأب لا يقول فقط لأبنائه: إنه يحبهم، ولا يعطيهم محاضرات في الحب والعطف والحنوّ، ولكنهم يشعرون بمدى حبه لهم وتضحيته من أجلهم، لذا فليرَ إخوانكم منكم ذلك الحب العملي، وستجدون النتيجة والأثر في سلوكهم وحركتهم ونشاطهم وإنجازهم.
ولتحسنوا تقديم إخوانكم وعرضهم على مسؤوليكم، وأحسنوا توظيفهم لتولي المهام المختلفة، ولا تحجروا عليهم بدواعي الحرص الزائد، ولنا في النموذج النبوي التربوي الكريم بتقديم أسامة بن زيد رضي الله عنه أسوةً وقدوةً في الإعداد المبكر للقادة، وقد اقتفى هذا الأثر النبوي الشريف الإمام المرشد الأول حسن البنا، رحمه الله، في تقديم إخوانه لمراكز القيادة والمسئولية؛ فكانوا بفضل الله عند حسن الظن، فكلما قدمتم أفرادًا وقيادات صالحين ومصلحين لدعوتكم، كنتم منتجين وحريصين على دعوتكم.
إن إعطاء الفرصة للأفراد لأن يكونوا قادةً- متى توفرت فيهم الشروط دون تعسف- لهو أكبر معيار إنجاز للمربي الحقيقي، ولا تجعلوا العيوب توقف القدرات، ولا تتوقفوا لتصحيحها، ولكن صحِّحوها أثناء حركتكم وعملكم، واعلموا أنه مما يشجِّع على مثل هذه المواقف ضمان الله عزَّ وجل لمن يقدم قائدًا موفقًا من إخوانه؛ أن له مثل أجره لا ينقص من أجورهم شيء، وأذكركم بنموذج الأخ الكريم الذي قدَّم الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله للدعوة؛ فنفعه الله ونفع به.
إنَّ أخشى ما أخشاه أن يكون أحدكم حاجبًا لإخوانه عن التقدّم، وهو بذلك سيكون بكل أسف حاجبًا عن دعوته خيرًا كثيرًا؛ دعويًّا وإداريًّا وتنظيميًّا؛ فمن منا يتحمَّل ذلك أيها الأحباب؟!
إخوتي الأحباب..
لتحرصوا على تطبيق نظام الإدارة بالحب بينكم، ولتشيعوا روح المودة والرحمة والتعاطف والتكافل بينكم في الأسر (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).[آل عمران:159]، ولترسِّخوا مبدأ حرية التعبير بين إخوانكم، ولا تحجروا على رأي، ولا تُجرحوا صاحبه، ولتقبلوا النقد والنصح بصدر رحب، ولتتذكروا وصية الأستاذ مصطفى مشهور، رحمه الله، لنا: "قدم النصيحة على أكمل وجه، وتقبَّلها على أي وجه"، ولتحسنوا تمثيل قيادتكم في عيون إخوانكم، ولتتمثلوا التواصي الوارد في سورة العصر في كل حياتكم : {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}.[العصر:1-3].
واعلموا أنَّ من أهم مميزات القائد التربوي القدرة على حل المشكلات، والتغلب على الصعاب، واستيعاب الأفراد والمشكلات، فلتحرصوا على احتواء المشكلات وعلاجها العلاج الأمثل، واحذروا أن تكونوا أنتم صانعيها ومفجِّريها، فتنفِّروا إخوانكم، وتعصُوا قيادتكم، وتُغضبوا ربكم، فإذا تفرقت القلوب، وقست المشاعر، وتبلَّدت العواطف، واختلفت المشارب فكيف تتنزَّل علينا رحمات الله ونصره وتأييده {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.[الأنفال:46].
أحبابي.. تذكرة أخيرة..
لا تهجروا قراءة تاريخ دعوتكم وقادتكم ومرشديكم؛ ففيها العبر والدروس، والزاد الحقيقي لكم على طريق الدعوة، وفيها رد عملي على كل الشبهات المثارة حول دعوتكم، وعليكم بدراسة (رسائل الإمام الشهيد حسن البنا) بتأنٍّ وفهم ووعي وإحاطة؛ لتعلموا- وتُعلِّموا- المبادئ الحقيقية لدعوتكم.
واعملوا جاهدين على تطبيق الصفات العشر للفرد المسلم صاحب الدعوة، التي ذكرها الإمام الشهيد حسن البنا، على أنفسكم وعلى من تربون، وهي: "سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قويّ الجسم، مجاهدًا لنفسه، نافعًا لغيره، قادرًا على الكسب، حريصًا على وقته، منظمًا في شؤونه".
هذه تذكرتي لكم وإعذاري إلى الله، داعيًا الله سبحانه وتعالى أن يعينكم، ويسدِّد على طريق الحق خطاكم، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وفي السر والعلن، وأن يُعلي شأن دينه ودعوته.. إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلّم، والله أكبر ولله الحمد.