خاص - بصائر
إنَّ جميع الأسماء حسنى وعظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد، فاسم الله الأعظم في حال الفقر الغني، وفي حال الضعف القوي، وفي حال الجهل العليم، وفي حال السعي والكسب الرزَّاق، وفي حال الذنب التواب الغفور الرَّحيم، وهكذا كل اسم هو الأعظم في موضعه، على حسب حالة العبد وما ينفعه، والله عز وجل أسماؤه لا تحصى ولا تعد ، هو الوحيد الذي يعلم عددها، كما ورد من حديث ابن مسعود في صحيح ابن حبَّان ، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال :
(( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلقِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ )).
إنَّ الإنسان في حياته معرَّض للخطأ والزلل والبعد عن الله، لذلك فلا غنى عنه إذا أراد الحياة السعيدة إلاَّ بالعودة إلى الصراط المستقيم بالتوبة الصَّادقة، والدعاء إلى الله بقلب صادق أن يثبِّته على الإيمان والعمل الصالح، وخير مناجاة تصحبه في طريق سيره إلى الله، هو المناجاة والدعاء باسم الله التوَّاب ..
فالتوَّاب في اللغة من صيغ المبالغة من اسم الفاعل التائب، فعله تاب يتوب توبا وتوبة، والتوبة الرجوع عن الشيء إلي غيره، والتوبة ترك الذنب علي أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإنَّ الاعتذار على ثلاثة أوجه: إمَّا أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة.
والتوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرَّط في حق الناس وحق ربه، والعزم علي ترك المعاودة لذنبه، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من صالح عمله، فمتى اجتمعت هذه الأربع، فقد كملت شرائط التوبة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا }. [التحريم:8]، وقال سبحانه: { إِنْ تَتُوبَا إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4].
وللدعاء باسم الله التوَّاب كما يقول علماء التزكية طريقان :
الطريق الأوَّل: دعاء المسألة، كما ورد في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أن رَسُول اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ )).
الطريق الثاني: دعاء العبادة، وهو المسارعة بالتوبة دون تأخيرها، وإشعار النفس بسوء أدبها وتقصيرها، روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عبد بن عباس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (( ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إنَّ المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا إذا ذكر ذكر )).
وعند الترمذي من حديث أَنَسٍ أن رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : (( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) ، والله عز وجل يقول : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَي اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ). [النساء:18].
ولقد علَّم اللهُ آدمَ الدعاءَ باسمه التوَّاب، فكانت النتيجة :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:37] أَي : تَعَلمها ودعا بها : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [لأعراف:23].
ويخبرنا أنَّ الأقوام السالفين، إن أعرضوا وابتعدوا عن الصِّراط بمخالفتهم الأنبياء والرسل، وجاؤوا تائبين طائعين خاضعين مستغفرين، وجدوا الله توَّابا رحيماً :
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[النساء:64].
ويعلِّم رسوله محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو تعليم لأمته من بعده :
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
ولنا القدوة في رسوله الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ففي سنن الترمذي من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنه قَالَ : (( كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِئَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ)).
وهو مرشدنا بقوله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإنِّي أتوب في اليوم إليه مئة مرة)).[رواه مسلم].
فلنشد الرِّحال إلى الله بالتوبة الصادقة، ونحن نودِّع هذا العام، لنستقبل عاماً جديداً، نبدأ دقائقه وساعاته بمناجاة إيمانية باسمه التوَّاب.