المؤمن يشعر أنَّه يعيش بإيمانه وعمله الصَّالح مع أنبياء الله ورسله المقرَّبين، ومع كل صدِّيق وشهيد وصالح من كلِّ أمَّة وفي كل عصر: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.[النساء:69].
وأيّ إنسان أسعد ممَّن يرافق هؤلاء ويرافقونه؟ إنَّها ليست مرافقة جسد وصورة، ولكنَّها مرافقة روح ووجدان، وفكر وقلب، وكفى أنه (معهم) وليس خلفهم، ولا قريباً منهم .. ولا يحسبن امرؤ من الناَّس أنَّ مرافقة هؤلاء للمؤمن شيء هيّن ضئيل، أو أمر خيالي موهوم، فإنَّه لفرق كبير دين إنسان تاريخه هو تاريخ شخصه أو أسرته، أو حزبه مثلاً، فهو قريب القاع، سطحي الجذور.
وإنسان تاريخه هو تاريخ الإيمان والهدى من عهد آدم، تاريخه هو تاريخ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد من أولي العزم من الرُّسل، ومن غيرهم من أصحاب النبوات والرِّسالات منذ بعث الله رسولاً، وأنزل كتاباً، فهو يستلهم هذا التاريخ المؤمن الحافل في كلِّ ما ينـزل به من أحداث، وما يعرض له من مشكلات، وما يقف في سبيله من عوائق، ويجد فيه الأسوة والهداية، كما يجد فيه السَّلوى والعزاء، كما يجد فيه الأنس والودّ، ومن كل ذلك يأخذ الزاد لفكره، والنور لقلبه، والمدد لإرادته.
الصَّلاة والدُّعاء
ومن أسباب السكينة النفسية التي حرمها الماديون، ونَعِم بها المؤمنون، ما يناجي به المؤمن ربه كل يوم من صلاة ودعاء.
فالصَّلاة لحظات ارتقاء روحي يفرّغ المرء فيها من شواغله في دنياه، ليقف بين يدي ربّه ومولاه، ويثني عليه بما هو أهله، ويفضي إليه بذات نفسه: داعياً راغباً ضارعاً. وفي الاتصال بالله العلي الكبير قوة للنفس، ومدد للهزيمة، وطمأنينة للروح.
لهذا جعل الله الصَّلاة سلاحاً للمؤمن يستعين بها في معركة الحياة، ويواجه بها كوارثها وآلامها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. [البقرة: 153].
وكان محمَّد رسولُ الله إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصَّلاة، ولم تكن صلاته مجرَّد شكل أو رسم يؤدَّى، وإنما كانت استغراقاً في مناجاة الله، حتى أنه كان إذا حان وقتها قال لمؤذنه بلال في لهفة المتشوق واشتياق الملهوف: ((أرحنا بها يا بلال))، وكان يقول: ((جعلت قرَّة عيني في الصلاة)).
وقد أعجبني ما كتبه «ديل كارنيجي» (في كتاب: ((دع القلق وابدأ الحياة)) ص 301 و 302) عن الأثر المبارك للصلاة في النفس البشرية، وهو يريد الصَّلاة بمعناها العام المشترك بين الأديان جميعاً، وهو الدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، قال: (ولا يقعد بك عن الصَّلاة والضراعة والابتهال أنك لست متديناً بطبعك، أو بحكم نشأتك، وثق أنَّ الصَّلاة سوف تسدي إليك عوناً أكبر مما تقدر، لأنَّها شيء عملي فعال، تسألني: ماذا أعني بشيء عملي فعال، أعني بذلك أنَّ الصَّلاة يسعها أن تحقّق لك أموراً ثلاثة لا يستغني عنها إنسان سواء أكان مؤمناً أو ملحداً:
1. فالصَّلاة تعينك على التعبير بأمانة ودقة عمَّا يشغل نفسك، ويثقل عليها، وقد بيَّنا فيما سلف أنَّ من المحال مواجهة مشكلة مادامت غامضة غير واضحة المعالم، والصَّلاة أشبه بالكتابة التي يعبر بها الأديب عن همومه، فإذا كنا نريد حلاً لمشكلاتنا وجب أن نجريها على ألسنتنا واضحة المعالم، وهذا ما نفعله حيث نبث شكوانا إلى الله.
2. والصَّلاة تشعرك بأنك لست منفرداً بحل مشكلاتك وهمومك. فما أقل من يسعهم احتمال أثقل الأحمال وأعسر المشكلات منفردين، وكثيراً ما تكون مشكلاتنا ماسة أشد المساس بذواتنا، فنأبى أن نذكرها لأقرب الناس إلينا، ولكننا يسعنا أن نذكرها للخالق عزَّ وجل في الصلاة.
والأطباء النفسيون يجمعون على أنَّ علاج التوتر العصبي، والتأزم الروحي يتوقف -إلى حد كبير- على الإفضاء بمبعث التوتر ومنشأ الأزمة إلى صديق قريب، أو ولي حميم. فإذا لم نجد من نفضي إليه كفانا بالله ولياً.
3. والصَّلاة بعد هذا تحفزنا إلى العمل والإقدام، بل الصَّلاة هي الخطوة الأولى نحو العمل، وأشك في أن يوالي امرؤ الصَّلاة يوماً بعد يوم، دون أن يلمس فائدة أو جدوى، أو بمعنى آخر، دون أن يتخذ خطوات مثمرة نحو تحسين حالته، وتفريج أزمته، وقد قال « الكسيس كاريل» (مؤلف كتاب ((الإنسان .. ذلك المجهول)) والحائز على جائزة نوبل) : (الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت حتى الآن، فلماذا لا ننتفع بها؟) انتهى.
وإذا كان هذا شأن الصَّلاة بعامة، فإنَّ الصَّلاة الإسلامية أزكى وأعمق أثراً، بما فيها من طهارة بدنية منشطة، وما فيها من قرآن يتلى، وهو كتاب الخلود، وما فيها من إيحاء الجماعة التي رغب الإسلام فيها، وحث عليها.
أيّ سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربِّه في ساعة العسرة ويوم الشدة، فيدعوه بما دعا به محمَّد من قبل: ((اللهم ربّ السَّموات السَّبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منـزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنى الدين، وأغنني من الفقر)). [رواه مسلم].
وأيّ طمأنينة ألقيت في قلب محمَّد رسول الإسلام يوم عاد من الطائف دامي القدمين، مجروح الفؤاد من سوء ما لقي من القوم - فما كان منه إلاَّ أن رفع يديه إلى السَّماء يقرع أبوابها بهذه الكلمات الحيَّة النابضة التي دعا بها محمَّد ربَّه، فكانت على قلبه برداً وسلاماً: ((اللهم إنِّي أشكو إليك ضعف قوتي وقلَّة حيلتي وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ...)).