الغنوشي.. المجاهد المجدِّد

الرئيسية » بصائر الفكر » الغنوشي.. المجاهد المجدِّد

خاص - بصائر

(حكم عليه في تونس عدَّة مرَّات بالسجن، ففي عام 1981م حكم عليه 11 سنة، ولكن أخلي سبيله مع وصول الرئيس زين العابدين بن علي للحكم عام 1987م، وحكم عليه عام 1992م مجدَّداً بالسجن المؤبَّد، ولكنَّه فرَّ للجزائر، ومنها انتقل إلى السودان، ثمَّ حكم عليه مرَّة أخرى غيابياً عامي 1991 و1998م، وفي المرتين كان الحكم بالسجن مدى الحياة، حتى استقر به الحال في لندن)؛ إنَّه زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس، وعضو مكتب الإرشاد العالمي في جماعة الإخوان المسلمين راشد الغنوشي، الذي قرَّر العودة إلى بلاده من منفاه في بريطانيا، بعد ساعات من انتفاضة الشعب التونسي المباركة خلال هذه الأيام ضد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، الذي فرَّ هارباً ومتوسلاً إلى المملكة العربية السعودية، وذلك للوقوف مع أبناء شعبه في هذه المرحلة التاريخية المفصلية في تاريخ بلاده.

ولد الغنوشي ببلدة الحامة بالجنوب التونسي، وبعد أن أتمَّ دراسته، انتقل للدراسة في جامع الزيتونة، وبعد أن نال الشهادة الثانوية انتقل إلى دمشق ليدرس الفلسفة، ومنها إلى فرنسا بنية مواصلة الدراسة في جامعة السوربون.

لم يتيسر له التسجيل في الجامعة الفرنسية حتَّى يدرس لغة البلاد، ولم تمر سنة حتَّى عاد إلى بلاده في فترة الستينات ليعمل بالمعاهد الثانوية، حيث درَّس في السبعينات مادة الفلسفة.

نشأته..

ولد الغنوشي وسط مناخ اتسم بالمقاومة، فخلال الحرب العالمية الثانية انتقم الفرنسيون المحتلون للبلاد من الذين تعاملوا مع الألمان، فشهدت منطقته التي يقطن فيها "الحامة" انطلاقة الشرارة الأولى للمقاومة المسلحة ضدَّهم التي انخرط فيها بعض أقاربه.

كان والده الوحيد في القرية الذي يعرف القراءة والكتابة، وكان يحفظ القرآن، وكان إماماً للناس ومفتياً لهم، وكان يدرس الأطفال القرآن الكريم مجاناً.

تخرَّج من جامعة الزيتونة ولم يشده إلى الإسلام إلاَّ بعض ما تلقاه من والده، أمَّا من الناحية الفكرية فقد كان أقرب إلى الشك والحيرة والتمرد على القديم، وما ذلك إلاَّ ردُّ فعل على أسلوب المشايخ في التعليم، وضد المنهاج التعليمي الذي كان سائداً في جامعة الزيتونة، والذي كان يقدِّم صورة عن الإسلام لم تكن تجيب عن تساؤلاته، ولم تكن تعطيه أيّ ثقة في الإسلام، ولا تقدّم إليه صورة معاصرة له، فلم يتطرَّق أحد للمواقف الإسلامية من قضايا العصر، ولم يكن يسمع إلاَّ الحديث عن العبد الآبق والبعير الشارد، وعن قضايا لا تمت للواقع بصلة.

تمَّ تعيينه معلّماً في قصر "قفصة" أواخر السنة الدراسية 1963مم، لكن طموحه كان أكبر من ذلك، حتَّى استخرج جوازاً وجمع بعض المال، وسافر باتجاه المشرق إلى مصر.

في مصر..

لم يكن التسجيل في الجامعات المصرية يسيراً في ذلك الوقت (تشرين الأول/أكتوبر 1964م)، وكانت السفارة التونسية تطارده وتعتبره خطراً مستقبلياً، لذلك كانت جاهدة في استعادته بالقوة، إلاَّ أنَّه استفاد في البداية من الخصومة التقليدية التي كانت قائمة بين بورقيبة وبين جمال عبد الناصر، فتظاهر هو ومجموعة من الطلاب التونسيين أمام بيت عبد الناصر إلى أن حصلوا على حق التسجيل في الجامعة.

وسرعان ما التحق بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، حيث درس حوالي ثلاثة شهور من عام 1964م، إلى أن حصل نوع من التصالح بين الزعيمين، وما لبث أن استجاب النظام المصري لطلب السفارة التونسية في استرداد (هؤلاء الآبقين)، فذهبوا إلى الجامعة ذات يوم ليجدوا أسماءهم وقد شطبت، وبدأ البوليس يطاردهم لتسليمهم إلى السفارة التونسية لتعيدهم قهراً إلى البلاد، وحينها أصبحت قضيتهم، كيف يهربون من مصر، فهرب الى سورية.

في سورية..

سافر إلى سورية، وهناك انتقل من دراسة الزراعة إلى الفلسفة، حاملاً فكراً قومياً عاطفياً ككل المعربين في تونس، الذين كانوا يتجهون إلى المشرق يطلبون عنده السند المعنوي، فقد كان المجتمع التونسي منقسماً بين متغربين هم الذين بيدهم السلطات، وبين معربين تطوف قلوبهم بالمشرق دفاعاً عن الذات.

وتحت مظله الفكر العروبي عاش الغنوشي سنوات إلى أن خلص من خلال المناظرات والمناقشات مع الإسلاميين فساد المنهج القومي، واطمأن قلبه تماماً إلى الإسلام بديلاً عن العروبة يحتويها ويعزّها ويتجاوزها.

الليلة الفاصلة..

كانت ليلة 15 حزيران/ يونيو 1966م نقطة التحوّل في حياته، حيث خلع القومية العلمانية والإسلام التقليدي، وانتقل إلى التيار الإسلامي، فكراً وحياة ومصيراً، مجرّداً من كلّ صيغة تنظيمية، تاركاً الناصرية وكانت في أوجها، أي قبل هزيمتها عام 1967م، واقتصر نشاطه على محاولة استيعاب معظم ما كتب في الفكر الإسلامي الحديث، فقرأ لمحمد إقبال، والمودودي، وسيد قطب، ومحمد قطب، وحسن البنا، والسباعي، ومالك بن نبي، والندوي، إلى جانب دروس في الحديث والتفسير والفقه.

الغنوشي في فرنسا..

ذهب عقب انتهاء دراسته في سورية صيف 1968م، إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا في الفلسفة، وهناك تعرَّف على جماعة الدعوة والتبليغ، التي وجد فيها الحماية من الريح العاتية، وتحوّل الإسلام لديه من مجرّد ثقافة نزلت من بُرجها الفلسفي إلى مستوى وهموم هذه الفئة المسحوقة الملفوظة والمقتلعة من أرضها، فبدأ تعلّم الخطابة، وتحوّل من أستاذ فلسفة إلى مثقف إسلامي إلى داعية.

العودة إلى تونس..

انعكست التجربة على أسلوب عمل مجموعته في تونس، إذ ظل ثلاث سنوات تقريباً على منهاج جماعة التبليغ يجتمع في المسجد لحفظ آيات من كتاب الله العزيز، وأحاديث النبيّ عليه الصلاة والسلام، ثم ينطلق إلى المساجد يدعو الناس إليها من الشوارع المحيطة لوعظهم وترغيبهم في الصَّلاة، غير أنَّ السلطة ما لبثت إلى أن أوقفته، ممَّا فرض عليه إعادة النظر في هذا المنهاج العلني، وانتهى إلى أنَّه لا يتناسب مع ظروف البلاد، لأنَّه منهاج مفتوح لا سرية فيه إطلاقاً، قد يتناسب مع ساحة عمل مفتوحة كالهند والباكستان وبلاد الغرب، ولكنَّه لا يتناسب مع بلد محكوم بنظام الحزب الواحد المتطرّف في فرديته وعلمانيته، ومن هنا بدأت الحاجة للاستفادة من منهاج الإخوان وتجربتهم.

الغنوشي والنهضة..

في نهاية الستينات عاد الشيخ الغنوشي إلى تونس، وبدأ نشاطه الدعوي وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية، الذين تشكلت منهم حركة النهضة الإسلامية، التي لم يكن معترّفاً بها من قبل نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وذلك في الوقت الذي تغرَّبت فيه الحياة بفعل السيطرة الاستعمارية على الاقتصاد والإدارة، وفي ظل انفصال بين الدين والحياة، فبينما تغرّبت الحياة ظل الدين منغمساً في التاريخ، ولذلك لم تكن الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس من ثمار جامع الزيتونة، فكانت إلى حدٍّ كبير انعكاساً لأثر الفكر الإصلاحي في المشرق.

نشأت الحركة الإسلامية لتجيب عن الدين ونظام الحياة، والموقف من الحداثة، والمسألة الفلسطينية، والعلاقة مع الغرب، والموقف الغربي من الإسلام، والمستقبل العربي، فمثل هذه القضايا لم تكن مطروحة في التعليم الزيتوني.

وقد اتسمت الحركة الإسلامية في تونس ببعض الخصوصية أتت إلى حدٍّ كبير من خصوصية الواقع التونسي نفسه، ومدى تغلغل أفكار التحديث فيه، وبعد مدَّة من التتلمذ على الفكر المشرقي، فتحت من جديد ملف التحديث، وبدأت تتعامل مع واقع مجتمعها وتمدّ جذورها إلى حركة التحديث الأولى التي بدأها رجال جامع الزيتونة، وقادها المصلح خير الدين التونسي، من أجل استئناف المسيرة المجهضة على أيدي المستعمر وخلفائه البورقيبيين.

وساعد على انتشار الفكر الإسلامي اطمئنان الدولة إلى أنَّ الإسلام انتهى، وأنَّ هذه الممارسات الدينية لبعض الشباب لعب أطفال، معتبرة وجود مجموعات تصلِّي في المساجد ظاهرة من مخلفات التطوّر، فلم تلق لها بالاً حتَّى عام 1978م، ولذلك استفاد التيار الإسلامي من العمل الدؤوب في الجامعات والمدارس والمساجد دون إعاقات من الدولة تذكر، فضلاً عن ذلك كانت الدولة مشغولة باليساريين، إلى أن تنبهت الدولة لقوَّة الإسلاميين عام 1978م، الذين ملأوا المساجد وراحوا يصارعون الشيوعيين في الجامعة والنقابات والمجتمع.

وفي سنة 1980م، احتفلت الحركة في الأول من آيار/مايو لأول مرَّة بعيد العمال في أكبر المساجد في تونس، وحضر الاحتفال حوالي 5000 شخص.

وفي آيار/مايو الذي تلاه 1981م، احتفلت الحركة أيضاً بتلك المناسبة، فأدركت الدولة عندئذٍ ما يمثله الاتجاه الإسلامي من خطر على المصالح الرأسمالية التي تحميها، وبعد نحو شهرين، شنَّت الدولة هجوماً كاسحاً، فاعتقلت القيادة وحوالي 500 من أعضاء الحركة، وانفتح باب الصراع المكشوف بين التغريب والتعريب، بين الأسلمة والعلمنة، بين الحرية والاستبداد، بين السكان الأصليين ثقافة ومصالح وارتباطات وبين القلة المتغربة المتنفذة وريثة مشروع الاحتلال.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …