درس تونس.. إذا الشعب يوماً – بقلم :د. أحمد نوفل

الرئيسية » حصاد الفكر » درس تونس.. إذا الشعب يوماً – بقلم :د. أحمد نوفل
1- مفاجآت الشعوب :
كم كرَّرنا: إنَّ للشعوب مفاجآت. وللشَّعب العربي بالذات.. مفاجآت.
وها هي واحدة من أكبر المفاجآت تحدث؛ أن يغادر رئيس تونس البلاد، وقد نزلت الجماهير بعفوية إلى الشارع إثر حرق شاب لنفسه (محمَّد البوعزيزي) في مدينة سيدي بوزيد التونسية.. وفي أيام يتغيّر نظام حكم هو الأشرس من بين الأنظمة العربية.. وتدعمه كلّ
القوى الغربية، من فرنسا إلى أمريكا إلى الغرب كلّه، بل إنَّ الغرب كان يُعدّه ويَعدّه النموذج الذي على باقي الدول العربية أن تحذو حذوه. هذا الشعب التونسي جزء من هذا الشعب العربي، صحيح أنه حرم من ممارسة شعائر دينه، وحرم من حرية العبادة والمعتقد، وغرب أشد التغريب وحاولوا علمنته بكل السبل وتدمير منظومته القيمية.. من خلال شبكات الانحطاط والانحلال.
يقول صديق: زرت جزيرة جربة، وهي منطقة سياحية، وكنت ألبس ملابس السباحة على الشاطئ، وبينما أتجوّل وجدت "النادي الإفريقي"، فقلت: ندخل أنا ومن معي. فأوقفنا الحارس على الباب. فقلت: نحن سيّاح. قال: هذا النادي لا يدخله إلاَّ العراة، فانسحبنا.
ومعلوم أنَّ بورقيبة ورفيقته (وسيلة) ولا أقول زوجته، كانا يملكان عدَّة نواد للعراة. أقول: رغم كلّ هذا الذي مارسه النظام منذ ما سمي الاستقلال حتَّى هذه اللحظة أي نصف قرن، رغم كل التخريب فلم تنطفئ جذوة الشعب.
وكم كرَّرت أيضاً: الشعب العربي كالجمل العربي يصبر.. ويصبر ثم ينفجر كالبركان.
كم قلنا: إنَّ المنطقة على فوهة بركان، وإنَّ مرجل الشعب يغلي، وإن الأوضاع قد تنفلت في أية لحظة، ولكن مَنْ يسمع، والنَّاس سكارى بنشوة القوة والقبضة الحديدية؟
يا شعب تونس ما أعظمك! ربما كان النَّاس يظنون أنَّه آخر الشعوب حراكاً، وإذ به أولها. وهذا كذلك من المفاجآت.
ولا يزعمنّ زاعم من حزب أو حركة أو تنظيم أنَّه هو قاد الثورة.
إنَّها حركة جماهيرية غير مؤطرة بإطار، ولا تحدها أسوار ولا يستطيعها تنظيم أصلاً. والمشكل الآن أن تجير لبعض هذه التنظيمات من راكبي الأمواج.
كان الشعب عظيماً منذ الوهلة الأولى، فما تكلم متكلم إلاَّ بالحق وبكل جرأة، سواء أكانوا من الحقوقيين أم من الصحفيين أم من الجمهور العادي.
وكم كان دور ((الجزيرة)) عظيماً في متابعة الحدث ساعة بساعة، وفي إجراء هذه المقابلات التي عبرت عن مزاج الشعب وعن موقفه. مع أن من تكلم كان يغامر بحريته أو بحياته، ولكنَّه مستعد لدفع الثمن، فمن كان يرى النهايات منذ تلك البدايات؟
لقد صدق شاعركم، إذ قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة                         فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي                                ولا بد للقيد أن ينكسر
ماذا عساه يقول لو بعث حيّاً؟ لا أظنَّه كان سيزيد على ما قال. وصدق من قال: لا أحد يستطيع الجلوس فوق أسنة الرّماح.
يا شعب تونس ما أروعك! ما أروعك!
2- بن علي ونظامه :
هل كان بن علي شيوعياً؟ هل كان علمانياً؟ وما سرّ موقفه العدائي المطلق من الإسلام؟ أم إنَّه لا شيء من العلمانية أو الشيوعية، ولكنَّه يفهم اتجاهات الرِّيح. العالم كلّه يحارب الإسلام، ويرحِّب بمن يحاربه ومستعد أن يغض الطرف عن انتهاكات أيّ نظام لحقوق الإنسان، ومصادرة الحريات، ونهب البلاد، وإلغاء الديمقراطية ما دام يحارب هذا الدين.
على كل حال، بن علي عنصر أمن تدرج حتى وصل أعلى القمة الهرمية الأمنية، وزير داخلية فمدير مخابرات.. يعني المتصرف الحقيقي في البلد. وبخاصة في الأيام الأخيرة للحبيب بورقيبة. ثم انقلب على معلمه المذكور واستلم السدّة مكانه، فتجاوزه في المظالم والتجاوزات كلها.. وتجاوزه في القمع والتعذيب والمصادرات ونهب الثروات والانعزال عن الشعب، والانغلاق على حفنة من المستفيدين لا يختلط بغيرهم وهم الذين قال عنهم في محاولة لتبييض صفحته: إنهم خدعوني وقلبوا لي الحقائق. فمن اختارهم؟ إنَّهم رجالك لا أنك أنت من رجالهم.
بن علي نموذج نموذجي لمتنفذي العالم الثالث ممَّن جاء من المجهول فأثرى واستشرى وبطش وقمع وأرهق الناس بمصادرة شريانين مهمين: الحريات بكل صنوفها والثروات. وهذا لعمر الحق في الشعوب فظيع. فما كان الله ليجمع على شعب خوفين! أفيجمع مخلوق على الناس مصيبتين: تضييق الأرزاق وتضييق الحريات. ولأن كل قامع ظالم هش، فإنه سرعان ما انهار.. وهرب في ليل ما له نهار. وكنا نتوقع ألا يجد ملجأ. وعجيب أن يجد ملجأ. لأن البلد الذي آواه يضحي بالعلاقة بشعب، مقابل العلاقة بـ(...).
ولو كان ثم انتماء للبلد كما يزعم لما غادرها، وفي آخر خطاب له قال: تونس التي نحبها كلنا! فأين ذهب الحب وكيف تبخر وضاع ولم تطلع عليه الشمس. إن البلد له بقرة يحلبها، فإذا انتهى الحليب قتلها أو ألقاها في أرض بعيدة أو.. رحل عنها هو.
الحب أن ترتبط ببلدك مصيراً لمصير. ولكنَّ دعوى الحبِّ شيء والحب شيء آخر. الحب تضحية لا حلب ومخض.. الحب إخلاص محض.
3- نفاق الغرب وانتهازيته :
صمتت أمريكا طيلة أيام الأحداث في تونس. وبعد أن سكتت دهراً قالت هجراً؛ ففي تصريح مقتضب في كلمتين قالت: للشعب التونسي الحق في اختيار رئيسه. لكن ما الموقف من قتل الناس وجرح المئات ونهب المقدرات وتهريب ثروة الشعب؟ ما الموقف من الانتهاك الشنيع لحقوق الإنسان؟ ولماذا تتدخل أمريكا في لحظات في مناطق أخرى وتضغط بكل ثقلها على دول ذات وزن وليست في وزن أو لا وزن تونس؟!
وأمَّا بريطانيا وفرنسا فكان شغلها الشاغل رعاياهما. ثم بعد أيام من بدء الأحداث والمجازر، قالتا على استحياء: ندين الاستخدام المفرط للعنف.. وهي كلمات مطاطة رخوة وتحتمل تحميل الطرفين: الشعب والنظام مسؤولية الاستخدام المفرط للعنف.
ثم بعد صمت مريب قالت فرنسا: ننصح بن علي بمزيد من الانفتاح، وكأنه كان على شيء من الانفتاح والمطلوب مجرد مزيد، مع أنه نظام في قمة الإغلاق والانغلاق ووصل الناس معه إلى حد الاختناق..
هذا الغرب جرَّبناه وحفظناه عن ظهر قلب.. يدعم كل طاغية يحقق مصالحه ومصالح ربيبته "إسرائيل"، فإذا بدأت ثورة شعبية يظنون إمكانية السيطرة عليها وصفوها بالأعمال الغوغائية، فإذا قويت وحشدت جماهير الشارع وتأجج الموقف وبات النظام الذي يدعمونه في خطر غيروا اللهجة إلى لغة متوسطة.. فإذا ترجحت الكفة بشكل صارخ لصالح الشعب بدؤوا يقرعون النظام الآيل للسقوط، ويقولون: نصحنا النظام من قبل بإجراء إصلاحات، ولكنه لم يستجب، و والله ما نصحوا أحداً إلا بمزيد من القمع. أمَّا كلينتون فقد نصحت بعد أن نضجت طبخة تونس نصحت جميع الأنظمة العربية بمزيد من الديمقراطية. وهذا من أجل تنفيس الاحتقان لتدوم قبضة أمريكا على المنطقة من خلال الأنظمة.
ويتجلَّى لؤم هؤلاء ونفاقهم، إذ ترفض فرنسا استقباله حين تنحى أو نحي. كما رفضت أمريكا من قبل استقبال الشاه.. مع أن كلاً منهما كان يخدم بكل إخلاص، الجهة التي رفضت أن تكافئه بمجرد استقباله للإيواء.. فهل من أحد يتعلَّم الدرس؟
هذه هي حقيقة الغرب وحقيقة دوله.
وبعد، فإنَّ أول الدول الخاسرين دولة العدوان (إسرائيل). فهذا أحد أهم مدجني الشعب لصالحها وأحد أهم حراسها. وثاني الخاسرين فرنسا، فهذا واحد من أهم عملائها، وثالثهم أمريكا، فهذا أحد أزلامها.. ثم الغرب كلّه والعلمنة.
وأمَّا المستفيد الأوَّل فهذا الدين العظيم، لقد عاد إلى أحضانه شعب حرم منه، ثم الشعب التونسي الذي كسب حريته ويستعيد ثروته، ثم شعوب العالم تتعلَّم كيف تكسب حقوقها، وفلسطين.. وكاتب المقال لأنِّي سأدخل تونس، ولم أدخلها إلاَّ ترانزيت.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

واليائس إذا سلك سبيل الأنبياء!

كاتبني أحدُ المكلومين: "ألا ترى أنّك تكتب عن الثبات وتباشير النصر، بينما لا يجد أحدنا …