في الوقت الذي نسمع فيه بأعراس تشبه ألف ليلة وليلة في بعض مجتمعاتنا تكون هدايا الحضور من الذهب أو النقود، وفضلة المآدب تكفي لإطعام بعض دول إفريقيا الجائعة، والفقرات الاستعراضية تهذب بالألباب من أول الزفات المصرية إلى الفلسطينية إلى الخليجية واستخدام الطيور والخيول، وأعراس فوق الماء وتحته وفي الجو، تعود الذاكرة لزمن كانت ثقافة المهور قائمة على الاستثمار بمعدن الإنسان والقيم العليا التي تعلي من شأن الزوج و الزوجة على حدٍّ سواء.
في زمان يُتهم فيه الإسلام بالمتاجرة بالمرأة وبيعها وقبض الثمن مهراً تعود الذاكرة لزمن كان مهر ابنة الرّجل الصَّالح، والذي يقال: إنَّه سيّدنا شعيب، ثمانية سنين من العمل الشاق قدمها سيّدنا موسى عليه السّلام كليم الله بين يدي زواجه بهذه المرأة العفيفة التي لم تزاحم رجال مدين على السقاية، هذه المرأة العفيفة التي عندما قابلت رجلاً يستحق المتاجرة به لم تمتنع عن طلب ذلك تعريضاً من أبيها بما يتناسب مع حياء البكر.
في زمن تُسلّع فيه النساء في سوق المهور، وتصبح المادة من مؤهلات القبول، فيصبح غلاء المهر دلالة على غلاء القدر تعود الذاكرة إلى زمن كان مهر عصمت الدين خاتون ابنة الأمير معين الدين أنر هو وحدة الشام ووأد الخلافات بين والدها وزوجها، وحدة كانت إحدى خطوات تحرير بيت المقدس، الذي أتمه زوجها الثاني صلاح الدين الأيوبي.
في زمن يصبح المال أصل من لا أصل و نسب من لا نسب له تعود الذاكرة إلى زمن كان النسب فيه نسب التقوى الذي جعل سعيد بن المسيّب يرفض مصاهرة عبد الملك بن مروان، ومهراً تحمله القوافل ما بين دمشق والمدينة، ويفضل على الوليد تلميذاً تقياً من تلاميذه قدم لابنته درهمين مهرا، وهي القصة التي خلدها الرافعي في كتابه ((وحي القلم)) بعنوان (زواج بدرهمين)، درهمان فقط كانا مهر ابنة فقيه المدينة، التي شهد لها زوجها بوراثة علم وعقل وسماحة أبيها.
في زمن ماتت فيه القيم وصار الغنى والإثراء غاية المنى مهما انحدرت الوسيلة تعود الذاكرة إلى زمن كان المهر الذي قدمه أحد الصالحين إلى زوجته ابنة التاجر الذي كان يعمل عنده رمانة أمانة، فقد كان يعمل ناظراً في مزرعة أبيها، فلمَّا طلب منه أن يحضر له رماناً ليأكل منه، فإذا هو حامض، فاعترض عليه التاجر أنه لا يعرف الرّمان الحامض من الحلو، فأجابه الرجل الصالح: إنه عيَّنه للحراسة ولم يأذن له بتذوقها، فأدرك الأب التاجر أنَّ من يحفظ أمانة الرمان سيحفظ أمانة ابنته، فأنجب مهر الرّمان الفقيه المحدث عبد الله بن المبارك.
مهر الرمان وجد مثيلاً له في مهر التفاحة، تفاحة أكلها تقي مرَّ ببستان على جوع وتعب، ثم وخزته نفسه اللوامة، فذهب ليخبر صاحب البستان ويطلب عفوه، فأبى صاحب البستان أن يعفو عنه إلاَّ إذا تزوج ابنته العمياء الصماء البكماء، ورضي الرجل بالتضحية تكفيراً عن ذنبه، فلمَّا تزوجها وجدها أجمل وأكمل النساء، عمياء عن النظر إلى ما حرَّم الله، صمَّاء عن الاستماع إلى ما يغضب الله، بكماء عن الحديث في المحرّمات، مهر تفاحة التقوى هذا أخرج إلى الدنيا الإمام أبي حنيفة النّعمان، فكانت ذرية بعضها من بعض، و كانت مقدّمات الخير تستوجب نتائج القبول والبركة من الله.
في زمن تتباعد فيه العائلات ويسلب الزوج المرأة من أهلها، وتسلبه هي من أهله تعود الذاكرة إلى زمن كان المهر وحسن المصاهرة يعم فضله العائلة كلّها، فنجد أنَّ مهر أمنا جويرية بنت الحارث رضي الله عنها كان فداء أهلها من الأسرى في غزوة بني المصطلق، فكان زواجها يمناً وفضلاً على أهلها جميعا وصفحة بيضاء في تاريخ الرسالة النبوية والحياة الزوجية.
ولأنَّ الخير باقٍ في أمَّة محمَّد إلى يوم الدين تأبى أمثلة التاريخ إلاَّ أن تجد لها صدى في نفوس مترفعة، وقامات دونها الجبال في ديما عايدية التي كان مهرها تضحية الصحفي الغزاوي مؤمن الذي فقد رجليه بقنبلة انفجرت فيه أثناء تغطيته للحرب على غزة. رجلاه المبتورتان وقلبه الصامد المستبشر كانوا جواز المرور إلى قلب ديما حفيدة فاطمة الزهراء التي تزوّجت عليَّ بن أبي طالب، فقير بني هاشم في حسابات المال والدنيا، وقبلت بمهر كان درعا غنمه سيّدنا عليّ في بدر، لكن المهر الحقيقي والمكسب الوحيد كان سيّدنا عليّ بن أبي طالب نفسه، كانت مؤهلاته ومهره هو ما وصف به نفسه صدقا و شعرا:
محمّد النبيّ أبي وصهري، وحمزة سيّد الشهداء عمّي
وجعفر الذي يضحي ويمسي يطير مع الملائكة ابن أمّي
فلمَّا تزوّج الزهراء زاد الفضل أفضالاً فأكمل:
وبنت محمَّد سكني وعرسي مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها فمن منكم له سهم كسهمي
في قصة إيمان ووائل أيضاً كان مهر إيمان صمود غزة وانتصارها، فوافق الأب الذي كان رافضاً زواجهما قبل الحرب وذهابها لغزة وزفها بنفسه إلى زوجها وائل عبر أنفاق غزة وقال لها مع وائل وأهل غزة: لا خوف ولا حزن عليك.
قيل: إنَّ رجلاً أراد أن يزوّج ابنته، فاستشار صاحباً له، فقال له: إنَّ الفُرس كانوا يزوِّجون على المال، والروم على الجمال، والعرب على الحسب، وسيّدنا محمّد كان يختار الدِّين، فانظر لنفسك بمن تقتدي.
هناك الكثيرات من النساء ممَّن يرضين بمهر السيّدة فاطمة، ولكن أين الرجال مثل سيدنا عليّ ممَّن يستحقون بذل النفس والنفيس من أجلهم؟؟
أيُّها الرِّجال، كونوا مثل عليّ تجدوا مثل فاطمة، فإنَّ من يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب، والطيّبات للطيّبين، و كيفما تكونوا تكون نساؤكم.
بقلم: د.ديمة طارق طهبوب