صدر حديثاً عن المركز الحضاري للدراسات المستقبلية بالقاهرة كتاب للإعلامي المصري الدكتور جمال نصَّار، تحت عنوان: ((نظرات في الفكر والسياسة)) يتضمَّن مجموعة من المقالات تنوعت بين الفكر والدعوة، وردود على بعض المتحاملين على كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث (الإخوان المسلمين)، وبعض المعاني والقيم الإسلامية العامة في ممارساتنا الحياتية، ونظرات في الواقع السياسي المصري، فضلاً عن بعض القضايا في وطننا العربي والإسلامي، في مقدمتها القضية الفلسطينية التي يتكاتف الأعداء على محو هويتها، وتمكين الاحتلال الغاصب منها.
يستعرض الكاتب بعض الأفكار المناهضة للحركة الإسلامية، والتي كان من أبرزها ما كتبه الدكتور أحمد البغدادي؛ الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت، في مقال بعنوان : (لماذا؟)، وملخص هذا المقال أنَّه يتهم فيه جماعة الإخوان المسلمين باتهامات عديدة؛ منها أنَّه لا يحتاج إليهم إلاَّ الشَّيطان، وأنَّهم يؤيِّدون (ابن لادن) من خلال عدم إدانتهم له.
ومن ثمَّ يدعو الولايات المتحدة الأمريكية، ومجلس الأمن الدولي إلى إدراج جماعة الإخوان المسلمين في اللائحة الإرهابية، وتجميد حساباتهم في الدول العربية والغربية -على حدِّ قوله- واعتبار زعمائهم ضمن المطلوبين دوليًّا.
ويقول نصار في كتابه: إنَّ الدكتور البغدادي لم يكن منصفًا، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. [الكهف: 5] مشيراً إلى أنَّ هذا الاتهام يدلّ على جهل هذا الرَّجل بدعوة الإخوان المسلمين، التي فتح الله لها الآفاق، وانتشر رجالها في كلِّ مكان، داعين إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، فهم ـ في النقابات المهنية ـ معاونون ومدافعون عن قضاياهم، وفي مقدمة أساتذة الجامعات يربُّون الأجيال على العلم والمعرفة والأخلاق الحميدة، لا يبتغون من ذلك إلاَّ رضا الله عزَّ وجل، ثم وطنهم وأهليهم من بني جلدتهم، مشيراً إلى أنَّ الإخوان على مدى تاريخهم المديد ينبذون العنف ولا يقرّون من يقوم به، مهما كانت الأسباب، مشدِّداً على أنَّ الإخوان في كلِّ خطاباتهم يدعون إلى إشاعة الحريات بكل أشكالها (الحرية الدينية، والحرية الفكرية، والحرية السياسية، والحرية المدنية ..). يقول فضيلة المرشد في ((رسالته)): (الأمة تطالب الحكام بإطلاق الحريات العامة، ووقف كافة أشكال القهر والاستبداد، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وإفساح المجال للقوى الحية المخلصة؛ لتكون عونًا للحكومات على مواجهة التحديات).
كما استعرض الدكتور نصار في كتابه فقه التغيير في العصر الحديث لافتاً إلى أنَّ من أبرز الواجبات التي عدَّها الفقهاء، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بمعنى آخر فقه التغيير، فالأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. [آل عمران: 104] وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}. [الحج: 41]، وقوله: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}. [التوبة: 71]، وقوله :{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. وهناك آيات كثيرة أخرى تحث على هذا المعنى.
وقد تأكَّدت هذه المعاني جميعًا بأحاديث الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنها أنه رُوي عن أبي بكر رضي الله عنه أنَّه قال في خطبة خطبها: ((أيها النَّاس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتؤوّلونها على خلاف تأويلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. [المائدة: 105].)).
كما استعرض نصار الإصلاح والتغيير في فكر الإمام البنا رحمه الله موضحاً أنَّ التغيير هو بذل الجهد البشري عبر عملية طويلة ومتدرجة يتم خلالها بناء مجتمع متكامل؛ يبدأ بالفرد ثمَّ الأسرة ثم المجتمع، وهذا التغيير له أهداف ومواصفات وخصائص ووسائل وأدوات، كلّها تنبثق من عقيدة التوحيد، ومن الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا التغيير يهدف إلى تغيير حياة الفرد، ونقله من الضياع والخسران والهلاك إلى الاستقرار والأمن والأمان.
وحلقات التغيير ثلاث هي: (الفرد، والأسرة، والمجتمع)، فإذا صلح الفرد واستقام استقامت الأسرة وأفلحت، وإذا استقام الرجل والمرأة استقام المجتمع كله، وصلح حاله، واستقام الحاكم والمحكوم، والكبير والصغير، والغني والفقير، والمتعلم والجاهل.
ومن أهم خصائص التغيير الإسلامي أنَّه لا يصطدم بالواقع، ولا يصادر الفطرة، بل يردُّها إلى الطَّريق الصحيح، كما أنه عالمي؛ فالإسلام يسعى لإخراج البشرية كلها من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة والغواية إلى الرشد والهداية، كما أنه أيضًا إنسانيُّ؛ فالمساواة بين البشر، وإقامة العدل، وتكريم الإنسان، بصرف النظر عن جنسه ولونه ودمه، من أهم خصائص التغيير الإسلامي.
وأضاف نصَّار وقد أحدث الإمام البنا رحمه الله تغييرًا فكريًا في المجتمع الذي عاش فيه؛ حيث تأمَّل حال المسلمين في زمانه بوجه عام، وحال قومه ووطنه بوجه خاص، فوجد أنَّ هناك تعددًا في المفاهيم حتى كاد الناس يحسبونها من الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا التبديل ولا إعمال العقل، حتَّى صارت كالعقائد عندهم، وإن كانت باطلة أصلاً، ومنها: أنَّ التمسك بالدين نوعٌ من التعصب، بل زاد البعض فقال: بأنه تجاهلٌ لغير المسلمين، وأنَّ هذا الدين ناسب عصره، وليس عامًا للناس كافة، وأنَّ التدينُّ من الأعمال الشخصية الفردية؛ أي لا صلة له بالحياة بنواحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من نواحي الحياة.
ونستطيع أن نقول: إنَّ الإمام البنا كان لديه مشروع واضح في ذهنه، راسخ في وجدانه، مستقر في أعماقه، اتضحت له أهدافه ووسائله ومناهجه، واتضحت له عقباته ومعوقاته، وجند لتحقيقه عقله وقلبه، ولسانه وقلمه، ووقته وجهده، ونفسه وجماعته، فكان يعرف ماذا يريد؟ وكيف يصل إلى ما يريد؟ وبمن يصل إلى ما يريد؟
من هذا المنطلق حدَّد الإمام البنا عناصر الإصلاح، فبدأ بالفرد الذي هو النواة الأولى والأساسية في بناء الأسرة التي هي نواة المجتمع الصالح، فقال ـ رحمه الله ـ في رسالة ((على الشباب)): (إنَّ منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل، واضح الخطوات، فنحن نعلم تمامًا ماذا نريد، ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة:
1ـ نريد أولاً الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه، فهذا هو تكويننا الفردي.
2ـ ونريد بعد ذلك البيت المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه، ونحن لهذا نعني بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعني بالطفولة عنايتنا بالشباب، وهذا هو تكويننا الأسري.
3ـ ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كلّه أيضًا، ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كلّ بيت، وأن يُسمع صوتنا في كل مكان، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار، لا نألو في ذلك جهدًا ولا نترك وسيلة.
4ـ ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التي تقود هذا الشعب إلى المسجد.
5ـ ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كلّ جزء من وطننا الإسلامي.
6ـ ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينًا من الدهر ودوَّى فيها صوت المؤذن بالتكبير.. فالأندلس وصقلية والبلقان، وجنوب إيطاليا، وجزائر بحر الروم، كلّها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام.
7ـ نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم، وأن نبلغ الناس جميعًا، وأن نعمَّ بها آفاق الأرض، وأن نخضع لها كل جبار، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.
ولكلِّ مرحلة من هذه المراحل وفروعها ووسائلها).
وحدَّد الإمام البنا في رسالة ((التعاليم)) صفات الفرد المسلم الذي يريده، وهي أن يكون قويَّ الجسم، متينَ الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شئونه، نافعًا لغيره.
وقد وضع الإمام البنا الهيكل الأساسي لنظام الحكم.. فهو يقوم على مسؤولية الحاكم، ووحدة الأمة، واحترام إرادتها، ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال.
فالحاكم مسؤول بين يدي الله وبين الناس، وهو أجير لهم وعامل لديهم، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)). وأبو بكر رضي الله عنه يقول عندما ولي الأمر وصعد المنبر: ((أيها الناس، كنت أحترف لعيالي، فأكتسب قوتهم، فأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم)). وهو بهذا قد فسّر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير، بل هو وضع أساسه، فما هو إلاَّ تعاقدٌ بين الأمَّة والحاكم على رعاية المصالح العامة، فإذا أحسن فله أجره، وإن أساء فعليه عقابه.
والأمَّة الإسلامية واحدة؛ لأنَّ الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلاَّ بها، ولا يتحقَّق إلاَّ بوجودها. ولا يمنع ذلك حرية الرَّأي، وبذل النصح من الصغير إلى الكبير، ومن الكبير إلى الصغير، وذلك هو المعبَّر عنه في عرف الإسلام ببذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الدين النصيحة)). قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)).