خاص - بصائر
إنَّ الله سبحانه حينما انتدب محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له:
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن . . إنَّها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان...).
إنَّه قيام الليل.. إخواني.. دأب الصَّالحين .. ومن السنن التي واظب عليها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه والتابعون.. فلم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدع صلاة اللّيل حضراً ولا سفراً، وإذا غلبه نومٌ أو وجعٌ، وهي السنَّة التي أمرنا بها؛ فعن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((عليكم بقيام الليل، فإنَّه دأب الصَّالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)). [رواه الترمذي والبيهقي والحاكم وصحَّحه على شرط البخاري ووافقه الذهبي].
شرح مفردات الحديث :
((عليكم بقيام الليل)) أي: التهجد فيه، ((فإنه دأب الصالحين قبلكم)) أي: عادتهم وشأنهم، والدَأْبُ : العادةُ والشَّأنُ وقد يُحرَّك وأصله من دَأب في العملِ إذا جَدَّ وتَعِب إلَّا أنّ العرب حَوَّلَت معناه إلى العادةِ والشأنِ.
((وقربة لكم إلى ربِّكم)) نكَّر القربة إيذاناً بأنَّ لها شأناً، ((ومكفرة للسيِّئات)) أي: خصلة تكفر سيئاتكم، ((ومَنهاة)) بفتح الميم وسكون النون،مصدر ميمي بمعنى اسم الفاعل، أي: ناهية عن الإثم، أي: عن ارتكابه ((عن الإثم)) وقيل: أي: حال من شأنها أن تنهى عن الإثم أو هي محل مختص بذلك مفعلة من النهي والميم زائدة. قال الله تعالى:{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.]هود:114[، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.]العنكبوت:45[.
فوائد الحديث وما يرشد إليه :
-أخبرنا الله سبحانه معلِّماً بقوله : {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} إنَّ ساعات الليل من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل القيام فيها يجعل السمع يواطِىء القلب على فهم معاني القرآن الذي يقرأه المصلي، وأنَّ ذلك الوقت أبين قولاً وأصوب قراءة من قراءة الصَّلاة في النَّهار. وإنَّ قيام اللَّيْلِ أَشَدُّ مُوَاطَأَةً وَمُوَافَقَةً بَيْنَ القَلْبِ وَاللِّسَانِ، وأَجمَعُ للخَاطر في أَداء القراءة وَتَفَهُّمها ، وهَذَا أفرَغُ لِلْقَلْب منَ النَّهَار، لأَنَّ النِّهَار يَكثُرُ فيه لَغطُ النَّاس وانتشارهُم ، وبحثهم عن معاشهم.
-قيام الليل عبادة جليلة واظب عليها الكمَّل والأنبياء والأولياء السابقون، واجتهدوا في إحراز فضلها، قال الحسن البصري: { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } . . كابدوا قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر. وقال قتادة : قال الأحنف بن قيس : { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ }.كانوا لا ينامون إلاَّ قليلاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا . ذكر الله تعالى قوماً فقال: { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم! فقال له أبي - رضي الله عنه - : طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ .
-قد يُحرم أحدُنا هذه العبادة الجليلة، فما السبب ؟؟ قيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل. قال: أبعدتكم ذنوبكم.
وقيل للحسن: أعجزنا قيام الليل. قال: قيَّدتكم خطاياكم. وكان الفضيل بن عياض يقول: (إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النَّهار، فاعلم أنَّك محروم مكبَّل، كبَّلتك خطيئتك).
-الصَّلاة باللَّيل من موجبات الجنَّة، يدلَّ عليه قول الله عزَّ وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}.[الذاريات].