هذه النفوس التي تيقنت أنَّ عظمتها بالرُّوح لا بالجسد، بالفكر لا بالجهل، بالحب لا بالبغض، ففرَّت إلى الله تعالى تزكِّي نفسها، وترتقي بروحها، وتنشر الخير في أمتها.نفوسٌ تمثلت قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}،[المائدة:13]، فاتخذته شعاراً ومنهجاً.
هذه النفوس التي فقهت حديث الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عندما قيل له: أيُّ النَّاس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)). قالوا صدوق اللسان نعرفه. فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النَّقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد)). [رواه ابن ماجه في سننه، قال الهيثمي في مجمع الزَّوائد: إسناده صحيح. رجاله ثقات].
هذا الدرس ذاته هو الذي فقهه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، فيما أورده البخاري في الأدب المفرد، فيما يرويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّه سمع عمر بن الخطاب يقول لرجل: ((كيف أنت؟ فقال: أحمد الله إليك. فقال عمر: هذا الذي أردت منك، هذا الذي أردت منك، أراد منه أن يحمد الله تعالى، فيؤجر على حمده لله تعالى)).
وهو الدرس ذاته الذي فقهه مؤمن آل ياسين حينما استشهد في سبيل تبليغ دعوة الحق، فقال عبارةً سُطِّرت في القرآن العظيم إلى قيام الساعة {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.[يس:26].
فيالها من عظمة ما بعدها عظمة، ورُقي ما فوقه رقي.
ولكن، كيف لنا أن نتعجَّب من إبراهيم النَّخعي، وها هو قدوته محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم تصل شفقته على أمته حالةً من الحزن لم يصلها أحد، حالةٌ تكاد تقترب من إهلاك النفس لشدَّة الحزن على كفر قومه وحزنه على مصيرهم، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}.[الكهف:6].
فإذا كانت هذه حالة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في حزنه على كافر مشرك، فكيف ستكون حالته وحسرته وحزنه على مسلم عاص.
لذا وجب على كلِّ من يسعى لهذا الرقي، وتلك المنزلة السامية أن يستحضر دائماً تلكم النماذج المشرقة من تاريخنا المجيد، فتكون نبراساً له في حياته، ومنهجاً له في سلوكه.
هذا درس لا بدَّ أن نعيه، ومنهج لا بدَّ أن نسلكه، كما سلكه أولئكم الشمّ الرّواسي من سلفنا الصالح.
يا له من نبعٍ لا ينضب؛ نبضٌ للعطاء في الحياة، ونبضٌ للعطاء بعد الممات.