1- إنَّ ما جرى في مصر وتونس هو نعمة من الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى هو مالك الملك وهو نازعه، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.] سورة آل عمران الآية 25[، ومن هنا فلا بدَّ لنا جميعاً ونحن نشكر النَّاس المجاهدين المتظاهرين الصَّابرين، وهو أمر واجب، أن نعلم أنَّ الفعل الحقيقي في هذا ينسب لله سبحانه وتعالى، فهو صاحبُ الفضل، وما الثورات والخروج إلا وسيلة يمنحها الله الفاعلية، فلا بدَّ أن نردّ الفضل لله وحده جل شأنه، وهو لا يمنع من تقدير المباشرين للعمل، على أن نعلم ونعتقد أن الله هو صاحب الفضل الأوَّل، ومن ثم للبشر، وما للبشر من فضل فهو من فضل الله عليهم.
2- إنَّ ما جرى لمبارك وبن علي هو سنة الله في خلقه، وليس أمراً شاذاً ولا خارقاً أو خارجاً عن هذه السنن، بل موافقاً لها من كلِّ وجه، فقد جاءت مثل فلق الصبح، وإن تحرّك الشعوب في مواجهة الظالمين لابد مثمر، وعاقبته انتصار المظلوم على الظالم، وبالتالي فإن على الشعوب أن ترفع منسوب المطالبة، فتطالب بكامل حقوقها، ولا ترضى بالترقيع، ولا بالحصول على فتات أو يسير من حقوقها، حتى أننا صرنا ننسب لبعض الظالمين الخير إذا أعطونا معشار حقوقنا، فليعلم الجميع أن المسألة ليست مرتبطة بإمكاناتنا، وإنما مرتبطة بسنن الله تعالى في خلقه، وما علينا إلا أن نرفض الذل، ونحمل راية العزة، وننطلق بها لتجري سنن الله على أيدينا، ويرتفع عنا الظلم، فلنغير ما بأنفسنا من استكانة، وخضوع للظالمين، ليغير الله ما بنا من ذل وهوان وتسلط الظلمة.
3- إنَّ هذه الأحداث تبشرنا أنَّ غطرسة كيان الغصب على ثرى فلسطين الطهور، وتعامله بكلّ صور الإجرام مع شعبنا الصابر المرابط ستزول، وتبشرنا الأحداث أيضاً أن هذا العلو منه سيتبر بإذن الله تعالى، وأن هذه الغطرسة سوف تتحطم ما دامت الشعوب لا تتنازل عن حقوقها، "ولا يضيع حق وراءه مطالب"، ولقد أصبحت فلسطين بعد ما جرى في تونس ومصر أقرب إلينا بكثير مما كانت من قبل ذلك، إن علامات زوال كيان الغصب قد تجلت وظهرت، وإن كانت قائمة من قبل، ولكنها ظهرت وتجلت كما تتجلى صورة في الظلام عندما يسلط عليها ضوء ساطع، فمن خلال التجربة والمثال تظهر الحقيقة، ويفهم الحال، فالقهر والاجرام الذي يمارسه الكيان الصهيوني من اعتقال الشرفاء والمجاهدين، وتعذيبهم، وهدم البيوت، وقصف الاطفال، وقتل العجز في بيوتهم!! لا بدَّ أنَّها قاصمة الظهر لهذا العدو، وسوف تعجل بزواله بإذن الله تعالى.
4- إنَّ ما جرى في تونس ومصر بشارة خير لأهلنا في الضفة الغربية، حيث إنَّ عبَّاس وزمرته قد مارسوا كلَّ أنواع الظلم والإجرام والخيانة بحق أهلنا في الضفة، فلا بدَّ وأن تدركهم هذه السنن الماضية، والتي لا تتخلف بحال من الأحوال، وما علينا إلاَّ أن نأخذ بالأسباب، وأن نتحرّك، ونحرك الشارع كله في مواجهة ظلمهم وخيانتهم، فإنه لابد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر، ولا بد للفجر أن يطلع، وإن عواقب الظلم، والخيانة، والاستسلام للعدو، والتذلل له، وفي المقابل التجبر على الشعب، وإهانته، والتآمر عليه، وقتل شرفائه، والإساءة إلى حرائره بالتَّعذيب والاعتقال، فإنَّ عواقبه وخيمة، لن تقل بإذن الله تعالى عن عاقبة بن علي ومبارك، فيجب علينا أن نتحرّك سريعاً، وبكلّ الإمكانات، ومع كلّ الشُّرفاء والمظلومين لدحر هؤلاء العملاء الساقطين.
5- من الضروري أن نلتفت من خلال هذه الأحداث أنَّ الظلم الذي حرمه الله تعالى، ويعاقب عليه جلّ شأنه عقاباً شديداً، بعد أن يملي لصاحبه ما يشاء سبحانه وتعالى أن يملي، هو كل ظلم أياً كان مصدره، وعلى أيٍ كانت ممارسته ووقوعه، وليس فقط ظلم الحكام للمحكومين، ولا ظلم الكافرين والفاسقين للمسلمين، بل كل ظلم، فظلم الحكام لرعاياهم، وظلم الكافرين للمسلمين، وكذا ظلم المسلمين للكافرين إن وقع، وظلم أي راعي لرعيته أياً كانت هذه الرعية شعباً أو عاملين، أو حزباً، أو أسرة وأهل بيت، هو مما حرمه الله تعالى، ويعاقب عليه، فالله حرم الظلم كله، ويعاقب على الظلم كله، قال تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))، فالله يعاقب حتى على ظلم الانسان لنفسه.
ومن هنا، فإننا نتوجه لأنفسنا وإخواننا، بل ولكلِّ مسلم ولي شأناً من الشؤون مهما صغر أو كبر، أن يتفقدوا أنفسهم فيما ولاهم الله تعالى من أبنائهم وأزواجهم وإخوانهم والخاضعين لسلطانهم في عمل ما أو مهمة ما، ففي الوقت الذي ننظر فيه بعين الرضا والسرور لما جرى في كل من تونس ومصر لأنه عقاب للظالمين، فإنه يجدر بنا أن نرفع كل أنواع الظلم من بيننا، إن كانت موجودة فيما هو تحت أيدينا من عاملين وأبناء وأهلين، وإننا لنأمل أن لا تتوجه أنظار الجميع عند قراءة هذه السطور إلى القيادات من حكام وحكومات ومسؤولين فقط، مستحضر كلّ منّا ما له عليها، وما يقعون به من مظالم، وإنما أن يتوجه كلّ واحد منا لنفسه، وما لديه من مسؤوليات، حتى ولو لم تكن مسؤوليته إلاَّ عن زوجته وأولاده، فليراجع نفسه، وليصوّب طريقه، فإنَّ الله أقلّ إمهالاً عند حساب العارفين والانتقام منهم، منه عند حساب الجاهلين والفاسقين أو الكافرين، فهو جل شأنه يعجل بحساب الصالحين إذا تجاوزوا وظلموا ما لم يعجله للظالم الفاسق، ولا أدل على ذلك ما جرى للمسلمين يوم أحد.
وفي مفهوم الظلم هنا نقول: إنَّ الأب الذي يقصّر في الإنفاق على أبنائه ظالم لهم بحرمانهم من حقِّهم، وهو مسؤول عن ذلك بين يدي الله عزَّ وجل، وفي الوقت نفسه، فإنَّ الأب الذي يبالغ ويسرف في الإنفاق على أبنائه ومن يعول هو أيضاً ظالم لهم، بما يحملهم عليه من التجاوز في الانفاق ونسيان أهل العوز والحاجة، وإنَّ الزّوج الذي يهين زوجته أو يضربها ويتجاوز الحدود في التعامل معها ظالم لها، مسؤول عن ذلك بين يدي الله تعالى، ولا بد أن يكون محاسباً على ذلك أمام عائلته ومسؤوليه، حتى لا يأثم المسؤولون عنه، ويكونون شركاء في جرمه بين يدي الله عز وجل، وحتى يعود هو إلى رشده، فيغفر الله له من خلال تذكير عائلته، وإخوانه، ومسؤوليه له، ومحاسبتهم إياه.
وكذا الزوج الذي يترك لأهل بيته "الحبل على الغارب"، ولا يراقب اللباس، والذهاب والإياب، والأب الذي يهمل الأولاد، وما يشاهدون، وما يتابعون، أيضاً ظالم لأهل بيته، ينبغي أن يتذكر مما يجري، ويتعظ مما يرى من عاقبة الظالمين، وإن الذي لا يجلس مع أبنائه وزوجته يسمعهم ويستمع لهم ظالم لنفسه ولهم، وكذا المدير والمسؤول عن عمل وتحت سلطانه مجموعة من العاملين، إن لم يتابع أعمالهم، ويتأكد من قيامهم بواجبهم تجاه العمل الذي يتولونه على أتم وجه، فهو ظالم لهم كظلمه إذا شدد عليهم بالحساب والسؤال وضيَّق عليهم فوق المطلوب أو منعهم بعض حقوقهم لا خلاف بين الحالتين، فلا فرق بين الإفراط والتفريط، فليست حقوق المعالين هي فقط الإطعام والإكساء، وإنما هي أيضاً الإخراج من ويلات العذاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[ سورة التحريم الآية 5]، وليس الظلم فقط هو ظلم الحاكم بالاعتقال، والتعذيب، والتجويع، والإذلال، وإلافساد، وإنما كل حرمان لصاحب حق من حقه ظلم أياً كان هذا الحق وأياً كان صاحبه.
6- إنَّ العرب والمسلمين مقبلون على مستجدات ومسؤوليات كبيرة بعد هذين الحدثين الكبيرين في تونس ومصر، تقتضي منَّا الاستعداد للتضحية والفداء، وكذا تمام الصِّلة بالله عزَّ وجل، وبذل الجهد والفكر في الاستفادة من هذا الواقع بأقوى ممَّا كان عليه من قبل.
7- إنَّ سنَّة الاستبدال سنة ماضية، وهي لا تدع أحداً يستحق الاستبدال إلاَّ استبدلته في وقته المناسب، وقد جعل الله لكلِّ شيء قدراً، فعلينا أن ننتبَّه لأنفسنا، وإلى جريان سنن الله تعالى في الخلق، حتَّى نكون من المعتبرين، ولا نكون لغيرنا عبرة، لا قدر الله.
ثالثاً: ما جرى نعمة تستوجب الشكر
نؤكِّد أنَّ ما جرى كما هو عبرة يستوجب الاعتبار، فهو نعمة تستوجب الشكر، لذا فإنَّ المسلم الصَّادق يتعامل مع هذا الحدث العظيم على أنَّه موسمٌ تربويٌ إيمانيٌ لا بدَّ وأن يضاعف من خلاله صلته بالله سبحانه وتعالى، وفراره إلى بابه جلّ شأنه، ليمنحنا المزيد من فضله، وتأييده ونصره، وليقينا شر أنفسنا وأعدائنا، ولذا فإننا وانطلاقاً من قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[ سورة آل عمران الآية 122]، لنوصي أنفسنا وإخواننا باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى بكلِّ الصُّور والوسائل استدراراً لرحمته وأملاً بنصره وتأييده، وفوق كلِّ ذلك طلباً لمغفرته، فلنبادر أيها الإخوة إلى ما يلي أو ما نستطيعه من هذه الأمور شكراً لله عز وجل:
أ- الجلوس مع النَّفس ومحاسبتها على ما وقع منها من مظالم، وإعلان التوبة إلى الله عزَّ وجل، وردّ هذه المظالم إلى أصحابها، سواء كان المظلوم ابناً أو بنتاً أو زوجة أو أخ أو عامل يعمل تحت يده أو شريك، فإنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيّروا ما بأنفسهم.
ب- الإعلان عن أيام الإثنين والخميس أيام صيام للإخوة وأسرهم لمدَّة شهر كامل.
ت- قيام اللَّيل نصف ساعة على الأقل مرتين في الأسبوع لمدة شهر.
ث- صلاة ركعتين قبل النَّوم في ربع ساعة كلِّ يوم.
ج- ختم القرآن ختمة تلاوة خلال شهر.
ح- حفظ أو مراجعة جزء من القرآن الكريم وتمكينه بشكل جيّد.
خ- الحفاظ على صلاة أربع ركعات من الضُّحى يومياً لمدة شهر.
د- متابعة الأخبار والمستجدات ومحاولة تحليلها وتقديم ما يراه مناسباً من نصح.
ذ- الإكثار من ذكر الله عزَّ وجل، بكل أنواع الذكر، وليكن كحد أدنى 100 مرَّة من كلِّ من الأذكار التالية: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، الصَّلاة على النَّبي عليه السَّلام، طلب المغفرة للنَّفس والوالدين، لا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلّي العظيم، أستغفر الله.
ر- الإكثار من الدُّعاء والضَّراعة لله عزَّ وجل، أن يحفظ إنجازات شعبي تونس ومصر، وأن يرحم شهداءهم، وكلّ شهداء وموتى المسلمين، ويباركها، وكذا أن يفكّ حصار غزَّة، ويفرِّج عن أهلنا في الضفة الغربية، والدُّعاء لكلِّ المجاهدين في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين، وأن يمنّ علينا بزوال كلّ ظالم، وأن يجعل لنا يداً بذلك، وأن يطهّر المسجد الأقصى، وكلّ فلسطين من دنس اليهود الغاصبين.
ز- قراءة أدعية ومأثورات الصَّباح والمساء.
س- عقد جلسة أسبوعية مع أسرتك في المنزل (الزَّوجة والأولاد)، تشمل الحديث عن الأوضاع، وأن تقول لهم وتسمع منهم، وتتوجهون معاً إلى الله تعالى بالدُّعاء، خلال هذا الشَّهر، ولا بأس أن تكون إحدى الجلسات فيها من المصارحة مع الأبناء والاستماع إلى نظراتهم لمسيرة البيت وخاصة للأب والأم، ورؤيتهم لقيامهم بواجباتهم، كسبيل لمعرفة الخلل للعمل على تجاوزه، وكسبيل لرفع الظلم بكلِّ صوره، وكذا كل مسؤول شركة أو مصنع، وكل من تحت يده مجموعة هو مسؤول عنهم، يعقد لهم جلسة مصارحة ومناصحة لتعديل الأمور، وتوضيح الأفهام المغلوطة، وتصحيح الأخطاء الواقعة.
ش- بذل المال للجهاد والمجاهدين، والتصدّق على أهل العوز والحاجة بكل طاقته.
ص- المساهمة الفاعلة والمتقدّمة في كلِّ أعمال إعزاز هذه الأمَّة، ورفع الضَّيم عنها، وتولي الأمر أهله.
------------------------------------
بقلم: د. نواف هايل التكروري - عضو المكتب التنفيذي لهيئة علماء فلسطين في الخارج