إنَّ الانتماء الدعوي والالتزام الحركي، لا يمكن لكليهما أن تحقِّقه الأمنيات، ولا تثبته الدعاوى والرَّغبات، فلا يمتن أسسه ويعمّق ركائزه ويظهر حقيقته لدى الفرد، ويؤهله لذلك عن جدارة واستحقاق، إلا رصيده العملي الذي يملكه من جهود وتضحيات وإنجازات، كونه يشكل بشكل تراكمي على مدى عمره الدعوي والحركي، وما قدمه ويقدمه من دلائل وبراهين يقينية لا تدع مجالاً لشاك، ولا تترك فرصة لجاحد، في فهمه وسلوكه ومعاملاته وأعماله وأفعاله ونشاطاته، هذه الدلائل والبراهين يثبت بها انتماءه، ويحرر بها ولاءه، ويجسد عن طريقها وفاءه.
يصنع بجهده وجهاده مجداً لدعوته تليداً، وحسباً لحركته رفيعاً شريفاً، يكتسب قيمته في دعوته ومكانته في حركته بقدر ما يقدّمه لهما من عطاء، يقدّم ويؤخّر فيهما بقدر رصيده من جلائل الأعمال، وصحائف الجدية والفعالية والإيجابية التي تسبقه وتميزه ويظهر عبقها الطيب وأثرها البين على نفسه وإخوانه ودعوته وحركته ومجتمعه وأمته في كل مكان يحل فيه.
فإمَّا أن يكون لاحقاً بأهل الفضل والمروءة من الرِّجال على طريق الدعوة والحركة، فيعمل مثلما عملوا ويبدع مثلما أبدعوا ويثمر مثلما أثمروا ويجتهد مثلما اجتهدوا وينجز مثلما أنجزوا، وإما أن يكون سابقا بالخيرات، فاعلاً ما لم يفعله الأوائل، محقّقاً ما عجز عنه بعضهم، ويربأ بنفسه أن يكون ماحقا لمجد دعوته، ناسفا لشرف حركته، كالذي قال عن نفسه:
قال أحمد بن سهل رحمه الله: (الرجال ثلاثة: سابق ولاحق وماحق، فالسابق الذي سبق بفضله، واللاحق الذي لحق بأبيه في شرفه، والماحق الذي محق شرف آبائه).
هذا الرَّصيد على طريق الدعوة الذي ينبغي أن يصاحب كل سالك مخلص صادق لهذا الطريق، هو الذي عناه ابن القيم بقوله: (يا مخنث العزم، أين أنت والطريق طريق، تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داوود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، وتزهو أنت باللهو واللعب).
الرجال ثلاثة: سابق ولاحق وماحق، فالسابق الذي سبق بفضله، واللاحق الذي لحق بأبيه في شرفه، والماحق الذي محق شرف آبائه
وعلى منوال ابن القيم نواصل فنقول: وعلى نفس الطريق سبق وصدق ونصر وأنفق ماله كله الصديق أبو بكر وضرب حتى أدمي، ووقف المواقف العظيمة، وأقام العدل وقتل الفاروق عمر، وقدم الصدقات الكبيرة واستشهد عثمان، وجاهد ونافح وضحى وطعن علي، وترك ماله كله وهاجر صهيب، وعذب ونال صنوف الأذى بلال، وتعرض إلى كل أنواع التنكيل آل ياسر، ووضع في النار أبو مسلم الخولاني، وربط في الشمس أياما سعيد بن المسيّب، وجر في أزقة المدينة مالك، وحبس ولوحق أبو حنيفة، وطورد الشافعي، وامتحن أحمد، وسجن ومات في سجنه ابن تيمية، وتنسك وعبد وأسال الدمع الفضيل بن عياض.
واجتهد وأعاد العدل عمر بن عبد العزيز، وتحدى أمراء المماليك وظلمهم العز بن عبد السلام، وابتلي وامتحن الشاطبي، وحورب ابن حزم، وأسترجع هيبة الأمَّة وحرَّر القدس صلاح الدين، وفتح القسطنطينية محمد الفاتح، وجاهد عز الدين القسَّام، واستشهد حسن البنا، وأعدم سيد قطب، وامتحن حسن الهضيبي، وحبس عشرات السنين عمر التلمساني، ومات واقفاً منافحاً عن الإسلام محمّد الغزالي، وملأ الأرض علماً القرضاوي.
وأسس وثابر ولقي ربه شهيداً أحمد ياسين، وتقدم الصفوف وزأر بالحق ونال ما تمنى عبد العزيز الرنتيسي، ورفع الراية وكافح وجاهد الأمير عبد القادر، وعلَّم وربَّى وواجه المستعمر عبد الحميد بن باديس، وحوصر ومات محبوساً في بيته البشير الإبراهيمي، وأبدع أينما حل ومات ملاحقا الفضيل الورتلاني، وطهَّر البلد من دنس المحتل واسترجع الكرامة شهداء الجزائر، وأثمر وأينع وأزهر وأورق وصال وجال محفوظ نحناح، وذبح من الوريد إلى الوريد محمد بوسليماني، واخترق الرَّصاص جسد أبو جرة سلطاني، وكثير كثير لم أذكرهم.
فما هو الرصيد الذي تملكه أنت، كي يؤهلك لتكون حلقة من هذه السلسلة الذهبية المباركة؟
وما هي الصفة التي ترضاها لنفسك، لتكتب بجانب اسمك ضمن كوكبة الرواحل هؤلاء؟
استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، وحدِّد موقعك بصدق، وراجع ما في جعبتك من أوراق رابحة تكن وقوداً لتأهيلك لتنال شرف الانتماء وفضل الصحبة وفخر الملازمة ووحدة المصير بمعية جميع الرجال الكبار الذين ذكرنا، من النجائب الذين أنجبتهم الأمَّة على مدار تاريخها، ولازالت ولعلّك تكون أحدهم، فالخير في ساحتها ممتد إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى.
وأنت تراجع نفسك، وتتلمس رصيدك المؤهل لذلك وتحاول لملمته، وتتفقد خزانك وما يحتويه من عمل وجد وجهاد، وعبادة وتضحية واجتهاد، حتى تعرف مكانك في موسوعة العز التي ذكرناها.
وأنت تفعل كلّ ذلك لابدَّ أن تستحضر الأمور التالية:
الأمر الأول: إياك أن تحقر نفسك، وتقلل من قدراتك، وتستهجن إمكانياتك، وتشرعن لنفسك اليأس والقنوط، وتبرر لها التأخر والتقاعس والانسحاب، وتصنع لها الأعذار، بحجة أين أنا من هؤلاء، وما ترك الأول للآخر شيئا، واجعل بين ناظريك قول ذلك الحكيم الذي أوضح وقال لك:
فبادر فأنت قادر ـ بعون الله ـ وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وكن على طريقهم وتأسى بهم، واجعل سيرتهم نبراسا لك، فقد قيل للحسن: (سبقنا القوم، هم على خيل دهم، ونحن على حمر معقرة)، فقال: (إن كنت على طريقهم، فما أسرع اللحاق بهم).
فكن إيجابيا كبير الأمل، شديد الطموح، عالي الهمة، وأبذل الجهد، وداوم العمل، والزم المثابرة، وأكثر الزاد، سوف تنل المكانة، وتترك بصمتك الخيرة وأثرك الطيب على الطريق وما ذلك على الله بعزيز:
وكن رجلا إن أتوا بعده يقولون مر وهذا الأثر
الأمر الثاني: بموازاة عدم احتقارك لنفسك وتشكيكك في قدراتك، وابتعادك عن الروح اليائسة المستسلمة، كذلك ينبغي عليك أن لا تكثر المن بعملك، وتستكثره على دينك ودعوتك وحركتك وأمتك، كما لا ينبغي أن يستولي عليك إعجابك بنفسك، وتنسى ذنوبك وتقصيرك، وتحب أن تحمد بما لم تفعل، فإن ذلك محبط للعمل ماحق له نازع لبركته، حائل دون عون الله، حاجز لمعيته وتوفيقه، فاتح الباب على مصراعيه للشيطان، كي يستحوذ عليك، ومن ثم ينحرف بك عن غايتك، ويصرفك عن مبتغاك، ويحرمك اللحاق بقافلة الموفقين التي نتحدث عنها.
إذا ظفر إبليس من ابن آدم بإحدى ثلاث خصال، قال: لا أطلب غيرها: إعجابه بنفسه واستكثاره عمله ونسيانه ذنوبه
واجعل نصب عينيك دائما تحذير الفضيل بن عياض، وهو ينبهك أنه: (إذا ظفر إبليس من ابن آدم بإحدى ثلاث خصال، قال: لا أطلب غيرها: إعجابه بنفسه واستكثاره عمله ونسيانه ذنوبه).
الأمر الثالث: أن تعلم علم اليقين أن الوصول إلى مثل هذه المكانة، لا يكون بالأمنيات الفارغة، ولا يتحقق بالدعاوى الجوفاء، فالدعاوى إن لم يكن عليها دليل، فأهلهــــا أدعياء فتحقيق الأهداف النبيلة والغايات العظيمة، وضمان المرتبة العلية عند الله وفي دنيا الناس، والرغبة الصادقة في اللحاق بقوافل الصالحين، يحتاج ممن يريد ذلك، إلى أن يقدم الأدلة البينة والبراهين الواضحة والأمارات الأكيدة، على صدق رغبته وصحة دعواه ونبل مقصده.
هذه الأدلة والبراهين التي ينبغي عليك أن تقدمها مهرا لكل ذلك لخصها لك الإمام البنا وهو يقول لك: (إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوةٍ نفسيةٍ عظيمة تتمثل في عدة أمور:
إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.
ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.
وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.
ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره..
وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعـة، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير ولا يحقق أملا، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.[يونس-36].
أما التمني الذي لا يصدقه عمل، والإدعاء الذي لا يصاحبه دليل، فمردود على صاحبه، وهو رأس مال المفاليس، كما قال الإمام علي رضي الله عنه، لأنه يتنافى وقيم العدل والإنصاف، فقد مر الحسن البصري برجل يعبث بالحصى ويدعو: (اللهم زوجني من الحور العين)، فقال له الحسن: (بئس الخاطب أنت، تعبث بالحصى وتطلب الحور).
فلا مجال لضربات الحظ هنا، كما قال الشاعر:
ومن رام العلا في غير كـد أضاع العمر في طلب المحال
فعلى قدر عطائك تتحدد قيمتك، وعلى قدر تضحياتك تكون مكانتك، أما أن تستلذ الراحة، وينعدم لديك الشعور بالتبعة والمسؤولية، وتغيب عندك الحرقة، وتفقد طعم الجد والتعب والاجتهاد، ويتبلد لديك الحس بحقيقة الانتماء، وتغلب لديك المزاجية بدل المصيرية، وتنسد عندك شهية العمل وبذل الجهد وكثرة الحركة، وتملأ قاموسك بالأعذار والتبريرات، ومع كل ذلك تكون كثير التردد سريع التلكؤ بطيء الاستجابة ثقيل التفاعل، ثم تطمع في اللحاق بالصالحين، والتخندق مع الرواحل، والوصول إلى القدر العلي عند الله وعند الناس، فهيهات هيهات، فما أنصفت وما هي إلا أضغاث أحلام، سرعان ما تذهب أدراج الرياح، وأسمع إلى الإمام ابن الجوزي وهو يعظك في ذلك: (يا مَنْ إذا صلَّى خفَّف، وإذا كال طفَّف، وإذا قيل له: تُب، سوَّف، وإذا دعي تخلَّف، ثم يطمع في لحاق الصَّالحين، فما أنصف).
في الأخير نقول لك: جدِّد العزم وقوي الإرادة، واقتحم العقبة، لتصنع لنفسك رصيدا معتبرا، يؤهلك كي تكون ضمن سلسلة صناع المجد، وأتعب قدمك فكم من تعب قدمك، مستصحبا الأمور الثلاثة التي نبهناك عليها، واستعن في كلِّ ذلك وقبله وأثناءه وبعده بربك، فسوف يوفقك سبحانه ويتكرم عليك بما تتمنى، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}.[الروم:4].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع :
ــ الفوائـــد لابن القيم - العوائق للراشد - مجموعة رسائل الإمام البنا- إحياء علوم الدين للغزالي.