ممَّا لا يختلف عليه اثنان، أنَّ الأحداث الراهنة في مصر وما سبقها في تونس، قد هيمنت على حديث الناس واهتماماتهم، وصار مصطلح التغيير عند الناس مصطلحاً واسع الانتشار وكثير الاستخدام.
ورغم الخلاف حول حقيقة التغيير، وأسسه وأركانه، وأهدافه وغاياته، إلاَّ أنَّ الغالبية تؤمن بأنَّ الظلم والقمع وسلب حقوق الناس وحرياتهم، هي الركائز الأساسية التي تولد التغيير، وتجعلها أكثر قوة وفاعلية، بحيث ينتفض أصحابها على كلّ ما حال دون عيشهم بكرامة، أو حرمهم من الشعور بالعزة، والرفعة والإنسانية.
وفي خضم هذه الأحداث، يخطئ البعض في ظنهم أنَّ هذه الأمور تنتج بشكل عفوي وعبثي، دون تخطيط ودراسة، ودون قيادة وإدارة، فيظنوا أنَّ أشكال الجهد المنظم من جماعات وأحزاب ومعارضة، عوائق التقدم والتحرّر، فيقللوا من شأنها، بل ويتنكروا لجهودها وما قدمته من تضحيات.
إنَّ التغيير السياسي، كغيره من أنواع التغيير، لا يتحقَّق، ولا يؤتي أكله، إلاَّ وفق جهد متواصل، وعمل دؤوب، نابع من إيمان عميق، وتفكير دقيق.
فهو إن كان قائماً على عبثية التصور، وفوضوية التطبيق، فإنَّه لا يؤتي أكله ولا يحقق نتائجه، بل سيكون طريقاً إلى الفوضى الخلاَّقة، أو الاستبداد المظلم، ممَّا يعود على فكرتها بالنقض والإبطال.
ولهذا، فإنَّ من سنن التغيير أن يُبنى على جهود متضافرة، وأعمال متراكمة. وما ثورات الشعوب على مرّ التاريخ إلاَّ حصيلة تضحيات قدّمت، وأفكار طرحت، وتجارب نفّذت، فاستلهمت منها وقودها ونورها، لتبني على ما قدمه السابقون، فتنير درب اللاَّحقين.
إنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم وهو قدوتنا ومعلّمنا ومربينا، أَصَّل فكرة العمل الجماعي للتغيير، فاتخذ صحابة له يحملون معه أعباء الدعوة وواجباتها، وأقام دولته كنموذج متقدّم للعمل الجماعي المنظم، حيث كانت منارة لتغيير خارطة عالم بأكمله، لتلهم المصلحين والقادة المجددين سبل النهوض واليقظة، والرقي والعزة.
فلما جاء هؤلاء المصلحون والمجدّدون، قَوْلَبوا أفكارهم وأطروحاتهم في قوالب عملية، ساعدهم فيها مجموعة من المخلصين، فكوّنوا جهداً جماعياً نهض بمن حولهم، وحرّروا أنفسهم من ظلم الطواغيت، واحتلال الأعداء وسيطرتهم.
إنَّ الشارع الحكيم جعل العمل الجماعي محلاً لتحقيق أركان الدين وتعاليمه، وناظماً لإظهار مقاصده وأسراره، فجعل الأوامر في القرآن بصيغة الجمع، لينبّه على البعد الجماعي لها، بل علَّق بعضها على تحقيق مفهوم الجماعة المؤمنة، التي تحمل على عاتقها تطبيقها وصونها من العبث والتفريط.
وفي الوقت نفسه، حمّل الجماعة حال انحرافها مسؤولية تركها لواجبها الحقيقي، ونسيانها لمقصد وجودها، فجعل أصحابها يستحقون العقاب واللوم والتوبيخ.
إنَّ العمل الجماعي المنظّم، لا ينفك عن أيّ تغيير حقيقي يعبّر عن إرادة الشعوب، ويكون محطَّ أنظارهم وآمالهم، لأمور عديدة منها:
1- العمل الجماعي هو الذي ينظم الجهود، ويضبط الأفكار المتعدّدة، بحيث يسخرها لخدمة الهدف الأسمى، دون تنازع وخلاف، فهو وحده ينظمها في بوتقة واحدة، تحت قيادة وإدارة، وفق حدود وقيود للمطالب والأدبيات والغايات، ممَّا يجعل أصحابه أكثر قوة وفاعلية، الأمر الذي يقربهم لتحقيق النتائج والغايات.
2- كما أنَّه يساهم في شحذ الهمم وتشجيع الأفراد، وسدّ الخلل ومكامن الضعف، ففيه توزيع للأدوار، وتكامل في الأعمال، وتوزيع للمسؤولية، مما يقلل الأعباء على كل فرد من الأفراد، فلا يكون الأمر كله منوطاً بفرد معين، بحيث إذا انتهى أو توقف انتهى كل شيء، بل إنَّه يقلل الخسائر على الأفراد حال وقوعها، ممَّا يجعلهم أكثر صبراً، وأشد عزيمة وموقفاً.
3- إضافة لما سبق، فهو يحقِّق الركائز الأساسية لممارسة عملية التغيير السياسي، وذلك عبر الوقوف في وجه المستبدين والمفرطين، وكشف خيانتهم لقضايا الوطن والأمة، وتعريف الناس بحقوقهم التي لابدّ وأن يتمتعوا بها، مما يخلق معارضة داخلية، ويهيّئ النفوس لتلبية نداء التغيير إذا فتح المجال، وهيئت الظروف تماماً كما هو حال مصر على سبيل المثال.
إنَّ الشعوب المتعطِّشة للتغيير تلقي على النخب العاملة واجبات في غاية الأهمية، وإنَّ الجماعات النخبوية والتي تقود الشعوب نحو التغيير، لابدَّ وأن تتسم بواقعية تصور المشاكل وحلها، مستفيدة من تجارب السابقين، بحيث ترى ملامح القوة والضعف فيها فتبني على ضوئها ما يناسب واقعها وفق الظروف والمتغيرات، متسلحة بحسن الخطاب المتخصّص الواعي الذي يهيِّئ الأفراد لتقبل الأفكار والتصورات التي تحقّق لهم النهوض والتغيير.