*حصر الخلل في الواقع التربوي في المناهج نوع من الاجتزاء، حيث إنَّ العملية التربوية لها أركان متعدّدة، وهي المربِّي والمتربِّي والأهداف التربوية والمحتوي والبيئة التربوية والمقصود بها المحيط الخارجي الذي يحيط بالأفراد، وبكل هذه الأمور تتأثر العملية التربوية، وفي رأيي أنَّ أقلَّ العناصر تأثيراً هي المنهج التربوي أو المحتوي المكتوب، ولعلَّ أعملها تأثيراً هو البيئة التربوية، والمؤثرات الخارجية، ثم المربِّي.
ولتعديل الواقع التربوي، وجبر قصوره، وإصلاح ما به من خلل، وعودته إلى الصورة المنشودة، يتطلب دراسة متعمَّقة للبيئة التربوية داخل المؤسسة وخارجها، والاهتمام بالمربّي، وانتقاء المتربين ثم يأتي بعد ذلك المنهاج، ورغم أهميته إلاَّ أنَّه العامل الأقل تأثيراً في العملية التربوية، ((أعطني مربياً قوياً صاحب رسالة رباني ناجح مؤثر متوازن، ولا تعطيه منهاجاً مكتوباً فستصل إلى نتيجة عظيمة))، وهذا لا يقلِّل من أمر المنهاج الذي هو ركن من أركان العملية التربوية، ولذلك يجب دائماً الاهتمام به، والعمل على تطويره.
بصائر: يعدُّ المربِّي عنصراً مهماً في العملية التربوية.. ما هي الصفات التي يجب أن تتوفّر في المربِّي الناجح؟ وما العقبات التي تواجهه، وكيفية التغلب عليها؟
*لابدَّ للمربِّي أن يتصف بعدد من الصِّفات التي تأهله لأن يكون متميّزاً وقادراً على التأثير في أفراده، من بينها، ضرورة وجود الهمّ الذاتي داخل المربِّي، الذي يحفّزه على تربية ذاته، وبنائها روحياً وثقافياً ومهارياً، وأن يتوفر لديه الاستعداد الداخلي للبذل والعطاء والتضحية، ولابدَّ له من الاحتكاك المباشر مع المربّين الكبار والقدوات، حتى وإن قلّوا في محيطه، فيجب عليه البحث عنهم، كي يتعلّم منهم طرق التربية الصحيحة والفاعلة، وأن يحرص على تثقيف نفسه، ومتابعة أحدث ما توصل له العلم في مجال التربية، كما أنَّه لا بدَّ أن يكون له حال مع القرآن العظيم، بالحفظ والتعلم والتدبر، ولذلك يجب على المؤسسة أن تراعي العديد من الأمور في اختيارها للمربِّي، والذي يعدُّ بالفعل من أهم العناصر في العملية التربوية.
وعلى المؤسسة الدَّعوية أن تنتبه عند اختيارها للمربّي أن لا تقع في فخ المربِّي الضَّروري، الذي تفرضه ندرةُ المربين، وندرة العناصر المؤثرة، وأن تعمل المؤسسة على تكثيف الجرعات التربوية التي تتناسب مع المربين للتغلب على المؤثرات السلبية في البيئة المحيطة، لصناعة مربٍّ قويٍّ قادر على التأثير في المتربّين وتربيتهم تربية صحيحة، لأنَّه لو كان المربِّي ضعيفاً بالتأكيد لن يؤثر في الأجيال التالية، ((لا يعقل أن تقود دابة عظيمة متمردة بخيط رفيع ضعيف)).
أمَّا عن العقبات التي تواجه المربِّي فهي عديدة، ومن أبرزها ضيق الوقت، وقلة التفرغ للإطلاع والتثقيف والمتابعة، إضافة إلى المشاكل الحياتية العديدة التي تأخذ الكثير من تفكير وتركيز المربّي، ولعلَّ العقبة الأخطر التي قد تواجه بعض المربين تكمن في ضعف همّه بالدعوة، والتفكير في شؤون أفراده، فلا تأخذ الدعوة منه إلاَّ فضلة أوقاتهم، ولا يسهر على التفكير في حلِّ المشاكل التي تعوقه عن العمل، أو التي تواجه أفراده، ويجب أن يعلم المربّي أنَّه إذا كان همُّه كبير بالدَّعوة سيصل بعون الله إلى الطّرق التي تعينه على التغلب على المعوّقات، وكما يقول القائل: ((إذا صحَّ منك الهوى... أرشدت للحيل".
بصائر: كيف ترى سير العملية التربوية داخل المؤسسة الدَّعوية الآن؟
*أرى أنَّ الجهود المبذولة أقلّ من التحديات الموجودة، فلابدَّ من أفكار إبداعية للتغلب على تلك المعضلة، وإن أدَّى الأمر إلى تقليل التوسع والاستقطاب، والتركيز على الصّف الداخلي، والوصول لمستوى جيد لمواصلة الاستيعاب بعد ذلك، بدلاً من ضعف التركيز نتيجة زيادة الاستيعاب داخل الصّف؛ وعظم التحديات التي تواجه المتربين، الأمر الذي يؤدِّي إلى ضعف المستوى الدَّعوي والتربوي الملحوظ في الأجيال الجديدة، لأنَّ الطاقة التربوية محدودة والجرعات التربوية ليست كافية للأفراد في ظلّ زيادة الاستيعاب وضخامة التحديات.
وكما حدث في بداية دعوة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فقبل دخول الأنصار سبق أن تمّ تهيئتهم لقبول الدّعوة من خلال الصَّحابي الجليل مصعب بن عُمير، والذي هيَّأ البيئة التربوية والدَّعوية إلى أن جاءت الهجرة، أي أنَّ تهيئة العناصر التربوية والبيئة الدعوية كانت سابقة للهجرة ولم تكن لاحقة.
بصائر: التربية داخل المؤسسة الدعوية هي وسيلة بناء وتكوين.. فما الهدف العام للتربية، وكيف يمكن العمل على تطوير البناء الذاتي للفرد؟
*الهدف العام للتربية هو إيجاد المسلم الرَّباني القدوة، صاحب الرّسالة المؤثرة في المجتمع، المتوازن، الذي بوجوده يتحقّق كلّ أسباب النجاح، وهو ما كان سبباً في ترجيح كفة الإسلام في كل المواطن لمصدق قوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، فلابدّ من الاستحقاق قبل التمكين، فالنَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قبل الجهر بالدَّعوة قام بالبناء الذاتي وبناء الأشخاص، أمَّا عن الوسائل، فأقترح سبعة وسائل للبناء الذاتي للأفراد:
1- إصلاح السر بين العبد وربة ((عبادة السر)).
2- صنائع البر ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء)).
3- بناء الثقافة المتعددة (الشرعية والتاريخية والواقعية والتخطيطية و...).
4- تنمية المهارات (الدعوية – اللغوية – المالية....).
5- تصحيح المفاهيم.
6- تغيير السلوك للأفضل.
7- العناية بالبدن وممارسة الرِّياضة.
بصائر: العديد من أفراد الصّف يشكون من ضعف الهمَّة والتفاعل مع أعمال المؤسسة الدعوية... ما السبب في رأيك وما الحل؟
*الأسباب لهذا الضّعف بالتأكيد عديدة؛ منها ما هو إيماني، ومنها ما هو غير ذلك، فقد يكون عدم التفاعل ناتج عن ضعف استحضار المساءلة بين يدي الله تعالى أو الانشغال بالدنيا أو يرجع إلى ضعف الأنشطة التربوية ذاتها، مما يؤدي إلى ضعف التفاعل معها، وقد يكون أيضا نتيجة لعدم وضوح الرؤية وغيابها لدى الأفراد، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الدوافع للعمل الدعوي.
والحل في ذلك يكون ابتداءً أن يسأل كلٌّ منا نفسه في صدق توجهه إلى الله عزَّ وجل، وهل هو يقوم بالأعمال بما يشرفه بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهل قدَّم لنفسه ما ينجيه من هول المسائلة بين يديه عزَّ وجل، ثم استشعاره أهمية لزوم المحاضن التربوية التي تحافظ على جزوة الإيمان، واستحضار المساءلة بين يدي الله تعالى وذكر الموت وما بعده، ويجب متابعة أحوال المسلمين وما هم فيه من هوان، وقراءة سير المصلحين والمجاهدين والمجددين قديماً وحديثاً، ومصاحبة أهل الهمم العالية، والتقلل من الدنيا، وعدم الاسراف في المباحات، وضبط النية في تحصيلها، ووضوح الرؤية له حول الصورة المطلوبة للداعية، وهي أن يكون ربانياً ناجحاً في حياته مؤثراً في مجتمعه صاحب رسالة متوازن.
بصائر: وكيف يكون الشخص ربانياً ناجحاً مؤثراً؟
*الرَّبانية تحتوي على ثلاثة عناصر رئيسة، وأولها القلب الحيّ الذي يتعبَّد إلى الله تعالى بثمرات الإيمان وعبادات القلوب، والعنصر الثاني هو المواظبة على العبادة وتفريغ الوقت لها والقلب فيها، والعنصر الثالث هو العلم الشرعي الموثوق القوي الضروري لكل مستوى تربوي "المناهج".
أمَّا الشَّخص النَّاجح في حياته، فيجب أن يركِّز على خمسة أركان، وهي:
1- النجاح الأخلاقي.
2- النجاح التخصصي المادي.
3- النجاح الثقافي الواقعي والتاريخي.
4- النجاح البدني.
5- النجاح القيادي.
أمَّا كيف يكون الدَّاعية مؤثراً في محيطه، فهناك سبعة دوائر للتأثير، وهي:
الوالدان، الأقارب، الجيران، الزملاء، المجتمع، الوطن، الأمَّة.
بصائر: هناك اتهام للتربية داخل مؤسسة الدعوة بالانغلاق.. كيف ترى صحة هذه الاتهامات؟
*في الحقيقة، لا أوافق هذا الرَّأي، فالدَّعوة الإسلامية بطبيعتها منفتحة، والانفتاح هو منهجها الأساسي بدليل أنَّ إرشاد المجتمع من أهم ما يتم تربية الأفراد عليه، وبصراحة يستحيل الانغلاق في هذا الزمان المنفتح، والانغلاق لا يقبل بين المربي والمتربي لأن منطلق دعوتنا هي دعوة اجتماعية {كنتم خير أمة أخرجت للناس...}، فمن أين يأتي الانغلاق؟!
أمَّا إذا كان هناك بعض التضييقات الشاذة، فهذا ممِّا يؤكد القاعدة ولا ينفيها، نحن دعوة منفتحة عامة تستمد انفتاحها من مبادئ الإسلام ذاته، وإن كان واجباً في ذات الوقت أن يحوط المربِّي على من يربيه بالتوعية لا بالمنع (الذي إذا أراد أن يفعله لن يستطيع).
بصائر: هل تتأثر العملية التربوية داخل المؤسسة الدعوية بالحالة الأمنية؟
*الحالة الأمنية مؤثرة بلا شك على شتى المناشط التربوية والدعوية، ولكن إلى أيّ مدى يكون هذا التأثير؟، هذا يعتمد على صلابة الدُّعاة والمربّين والمتربين على حدٍّ سواء، والمؤثرات الإيمانية لم تغب لحظة من اللحظات عن العمل الإسلامي حتى في صدر الإسلام، ولم تحل ولن تحل دون استمرار العمل التربوي، وهي قد تغيّر في بعض أشكاله إلاَّ أنَّها لا توقفه أبدا، فمثلا كان هناك معسكرات وتم إلغاؤها، ولكنها تتحول إلى صورة أخرى بديلة، وكانت هناك رحلات مجمعة وتتحول إلى صورة أخرى، والدعاة دائما يجدوا بدائل أخرى، وفي النهاية يتحقق الهدف بإذن الله.
بصائر: هناك قضايا أساسية في العالم الإسلامي.. كيف يمكن غرس الاهتمام بها في المتربِّي؛ كالقضية الفلسطينية مثلاً؟
*من خلال عقيدة الولاء والبراء، وتحقيق الأخوة الإسلامية العامة {إنما المؤمنون إخوة..}، ويعد المدخل العقائدي للصراع مع اليهود هو الأهم لغرس الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وليس أيّ مدخل آخر، وذلك من خلال الثقة بوعد الله في نصر المؤمنين، ومن خلال الجهاد الذي هو الحل الوحيد للتحرير واستراداد الحقوق، بالإضافة إلى الشق التاريخي للقضية، وسنن الله سبحانه وتعالى في إيتاء الملك ونزعه لمن يشاء.
بصائر: البعض يقول: إنَّ الإداريات طغت على التربويات، الأمر الذي أثَّر على مستوى المتربِّين.. فما رأيك وما الحل؟
*بالطبع أوافق إلى حدِّ ما أنَّ هناك طغياناً للإداريات على التربويات، وهو ما ينبغي أن لا نستسلم له، وأن نرشده، وأن يكون العامل التربوي هو الأساس، وأن تكون الإدارة في خدمة التربية والدعوة وليست قيداً أو عائقاً، من خلال التدريب الإداري الصَّحيح الذي تتبناه المؤسسة، ويجب ضبط اللوائح، والتركيز على التدريب الإداري، والتوظيف الجيّد لكلِّ أبناء المؤسسة، وتعميق روح الشورى، وتنشيط الهياكل الإدارية، وسلاسة الاتصال فيما بينها، وغير ذلك من الضمانات التي تجعل العملية الإدارية عوناً وليست عبئاً.
بصائر: في ظل عالم منفتح يتعرَّض المتربون لفتن كثيرة من خلال الإعلام الجديد، وخاصة الإنترنت ومواقعه العديدة، والبعض يقول: إنَّه يستخدمها لأعراض دعوية، ومن ثم يقع في شراكها، فما رأيك؟
*يجب على المربِّي أن يوعي أفراده والمتربّين بأهمية استخدام التكنولوجيا الحديثة، وفي مقدمتها الإنترنت، وأنَّها سلاح ذو حدين، ويجب تحديد وقت يلتزم بها الشخص للتعاطي معها، وأهداف محدّدة والحرص على عدم الخلوة فيها، حتى لا يضعف الإنسان فيقع في شراك المواقع غير الحميدة، كما يجب الحرص الذاتي وعدم الاستدارج إلى الدخول في حوارات عقيمة مع صاحب الأفكار الأخرى، الذين لا همَّ لهم سوى الجدال وتضييع الوقت وإلقاء الشبهات، وعلى الفرد أن يحذر أن يجلس لعشرات الساعات أمامها.
بصائر: ضعف مشاعر الأخوة بين أفراد المؤسسة الدعوية تؤثر سلباً على بناء الصف.. كيف يمكن تفعيل وتقوية صفة الأخوة، والتي تعدُّ عنصراً من عناصر النَّجاح في العملية التربوية؟
*أن يعلم أنَّ التقصير في هذا الجانب، هو كالتقصير في جملة الطَّاعات التي يسعى الإنسان إلى عدم التقصير فيها كالفجر وقيام الليل وهذه بتلك، ولذلك يجب الفهم الصَّحيح لحقوق الأخوة والحفاظ على أركانها وواجباتها كما المحافظة على الأركان والواجبات الدينية فهي من صلب الدين، كما أوصانا صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وفساد ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكنَّها تحلق الدين))، وما أشدّ حاجتنا في هذه الأزمنة المادية إلى الأخوة الصَّادقة والقلوب المتحابة التي يعتصم بها العبد في وجه العواصف الهوج والفتن والمطامع والإغراءات، موقنين بأنَّ يدَ الله مع الجماعة، وأنَّ الذئب دائماً لا يأكل إلاَّ من الغنم القاصية.