وراءه إماماً في ذلك المسجد، عرفنا وتذوقنا معاني الصَّلاة والاعتكاف والصحبة الصالحة والصبر ومجاهدة النفس.
كان الشيخ يؤمّنا في صلاة التراويح عشرين ركعة لم يقصر ولم يبدل منذ عرفناه في الإطالة والإجادة على سنَّة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، يسبِّح إذا قرأ التسبيح، ويحمد عند الحمد، ويتعوَّذ عند ورود الاستعاذة، يرفع الصَّوت احتفالاً عند ذكر الجنَّة فيجعلك تشعر وكأنك تستفتح أبوابها، ويخفض إشفاقاً عند ذكر النَّار ورجاءً لعفو الله، وربَّما صلَّى ونسي من يؤمّهم، وكأنه في عالم مناجاة خاص بينه وبين ربَّه.
كم كانت تحدِّثنا أنفسنا ونحن شباب بالجلوس بعد دقائق من القراءة وكم فعلنا، وهو ما يزال واقفاً على الرَّغم من كبر سنه ووهن عظمه.
كان رحمه الله يعتقد أنَّ الصَّلاة مدرسة، ولكلِّ شيخ طريقه، وطريقة الشيخ فضل عبَّاس كانت تفريغ النَّفس من الشواغل حتَّى تقيم الأركان بقلبك قبل جسمك حتَّى تنهل من فتوح الله الذي فرض الصَّلاة في السَّموات، وترد بروحك إلى تلك المعالي، كلَّما وقفت بين يديه.
بعد صلاة القيام والسّحور والفجر لم تكن مدرسة الشيخ فضل عبَّاس تتركنا أو تغلق دوننا الأبواب، ولا كان المعلمون ينصرفون، بل كانت غرفة الجلوس في بيته تؤوينا فنرتمي على أوّل كرسي أو كنبة تلاقينا، وبنات الفضل اللواتي نشأن في مدرسة أبيهن يدثرننا كالأمهات الحانيات، ولكن ما هي إلاَّ ساعات، وكان لا بد من النهوض الإجباري إلى المدرسة، فرمضان ليس شهرَ التكاسل والكسالى، وعبادة الله تمد بالقوة وتفتح الذهن للعلم، وهكذا كنا نتوجه كالجنود برفقة معلماتنا بنات الشيخ فضل إلى المدرسة، ويبقى ذلك الرَّابط بيننا وبينه في شخص بناته اللواتي نهلن من علمه، وعلمننا كيف نحبُّ العربية الفصحى، وندرس التاريخ، ونكتب الأبحاث.
قيل: (من العظماء من يشعر المرء بحضرته أنَّه صغير، ولكن العظيم بحق هو من يشعر الجميع في حضرته أنهم عظماء)، وهكذا كان شيخنا يعاملنا ككبار، ونحن لم نبلغ العشرين، ويحدثنا بحميميَّة ودفء الأب على الهاتف، ويسأل عن أخبارنا وأهلنا، كما لو كنَّا أصدقاء طفولة.
في وجود الأستاذ الدكتور فضل عبَّاس وأمثاله كنَّا نشعر بالاطمئنان أن للعلم شيوخه وللحق رجاله، وأنَّ الله يحفظنا ويعفو عن ذنوبنا بوجود الصَّالحين.
رحمك الله يا أبانا، وأجرى لك الحسنات في إثرك، وأبقى بيتك مفتوحاً بوافر العلم وصالح العمل.