وأنَّا أستمع البارحة للبيان الأوَّل من القوَّات المسلحة المصرية، فكرت أنَّها أوَّل مرَّة استمع فيها لبيان أوَّل، وهو ما درسنا عنه في التاريخ أنَّه يمهِّد لثورة أو انقلاب أو يأتي بعده، وصفحات تاريخنا مليئة بأيام كانت شعوبنا العربية تنام وتصحو على البيانات الأولى يوم كانت إرادتهم عفيَّة ونفوسهم حرَّة لا ترضى بالذل والدونية.
منذ أكثر من ثلاثين سنة، كانت ليلة البارحة أوَّل موعد لي مع بيان أوَّل كما الكثيرين من أبناء جيلي، هذا الجيل الذي وُلد ومات بعضه دون أن يسمع بياناً أوَّلاً، وهذا يدل كم جلست هذه الأنظمة على قلوبنا وتحكمت بأرواحنا أو بالأحرى نحن الذين أجلسناها وحكمناها، فلا طاغية يصعد إلاَّ وتحت أقدامه رعية، قد صعد على جماجمهم و أجسادهم ليبلغ كرسيه، هذه صفة كلّ فرعون و من لبس ثوب الفرعون، وكذلك هي صفة الشعب الذين سمحوا للفرعون أن يتفرعن {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين}
اليوم سقط الفرعون واستيقظت الشعوب من رقدة العدم، والحبل على الجرَّار، هذا بيان الشعوب الأول، ولكنَّنا من كثر كرع المرّ لم نعد نستطب الماء الزُّلالا، لم نعد نصدق أنَّ بإمكاننا أن ننتصر على أعدائنا، لأننا مهزومون من أنظمتنا التي ركعتنا لكل الأصنام التي شيدتها، باستثناء قمر غزَّة كلّ نجومنا آفلة، لم نعد نعرف ما معنى النَّصر المؤزَّر، سوى كعبارة في كتب التاريخ و البلاغة! ما معنى الفتح المبين؟ أصبحنا نختبئ من تاريخنا الذي صرنا أمامه أقزاماً، نمارس البطولة وحرية التعبير في الغرف المغلقة، وبين النَّاس نمشي برؤوس منكسة، نخاف أن تعلو هاماتنا فيراها الرقيب فيقصها! حتَّى النصر يبكينا بدل أن يضحكنا، فنحن مستجدون في ميدانه، وملامح الوجه المتجهم البائس لم تعتد بعد على بسطة الابتسام وتألق الثغر، ولكنَّ الأخطر من ذلك أن لا نعرف كيف نوحِّد جهودنا بعد أن كثر تشرذمنا في فرقنا بأسمائنا المختلفة!
الأخطر من ذلك أن نتربَّص ببعضنا البعض، ولا نرصّ الصفوف فتختلف الأجساد و القلوب.
الأخطر أن يرغب البعض بتسجيل النقاط دون غيره، بدل أن يدخل الميدان خافض الرَّأس حاني الظهر كما دخل الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم مكَّة ليفتح صفحة جديدة خليقة بنبي الرَّحمة ودين الرَّحمة الذي أخرج الناس من جور الأديان إلى العدل، وأعلنها الكريم بن الكريم مدويّة بياناً أوّلاً لدولة الفتح ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))،لم يحاسب أعداءَ الأمس من أهل مكَّة الذين ساموه سوء العذاب سنوات و سنوات، فللنصر أخلاق ربطها الله في سورة النصر باسمه التواب {إنه كان توابا}.
مع أنَّ البعض قد يرى النَّصر موقف انتقام وقصاص ونصب مشانق، وذلك لا ينبغي أن يكون إلاَّ مع الطغاة بحق نفس أو مال أو عرض، الطغاة الذين اختاروا بظلمهم أن يخرجوا من ذمَّة الإنسانية وعهد الآمان، وأمَّا الشعوب فيما بينها فعفو المقدرة أدعى للحفاظ على النصر والانطلاق نحو البناء.
لقد تقدمت الحركة الإسلامية في مصر ممثلة بالإخوان بخطوات سبَّاقة في المنهج الفكري والعملي عندما قدَّمت نفسها كجزء من الشعب لا تسعى للسيطرة أو الاستئثار دون بقية أطرافه، بل العمل مع الآخرين لما فيه خدمة البلاد والعباد، وهذه هي الرؤيا الإصلاحية لكلِّ مَن أراد الاقتداء بمصر على سنَّة الرَّسول الذي صالح وعاهد وأقام التحالفات بحسب المرحلة ومتطلباتها ونضوج الأمَّة وقبولها للتغيير، وحتى عندما تمكن عفا بأمر الله التوَّاب، أخطر ما بعد الثورة أن نشتغل ببعضنا ونؤجج خلافاتنا فتكون الهزيمة الحقَّة، وتذهب ريحنا وقوتنا وصدق الرافعي إذ قال: (أضيع الأمم أمَّة يختلف أبناؤها، فكيف بمن يختلفون حتى في كيف يختلفون؟!).
برء كبير جرح في مصر، وكلَّما برء جرح تدفق جرح فلسطين بالدماء، كلَّما سقط كرسي عربي زاد الأمل بسقوط دولة الهيكل، وكلَّما تزلزلت الأرض بطغاة العرب عاد الحلم أن تنهار بالصهاينة.
كلنا اليوم مصر كما كنا بالأمس تونس، أمَّا فلسطين فحالها كتلك المرأة التي خرجت للمنصور بن أبي عامر الأندلسي بعد أن عاد منصوراً على الإسبان إلى قرطبة ، ووافق رجوعه صلاة عيد الأضحى والنَّاس في المصلَّى يكبّرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت طريقه، وقالت له بقلب متفطِّر باكٍ: يا منصور، كلّ الناس مسرور إلاَّ أنا . قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدي أسير عند الصليبيين في حصن رباح، فإذا بالبطل العظيم الذي لم ينزل بعد من على ظهر جواده، يلوي عنق فرسه مباشرة، وينادى في جيشه، ألا ينزل أحدٌ من على، ثم ينطلق متوجِّها إلى حصن رباح، ويظل يجاهدهم حتَّى يجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين عندهم، ومنهم ولد العجوز.
يا تونس، يا مصر، يا كل العرب والمسلمين كلّ البلاد محرّرة إلاَّ فلسطين، وكل العواصم تحتفل إلاَّ القدس.
اليوم سقط الفرعون واستيقظت الشعوب من رقدة العدم، والحبل على الجرَّار، هذا بيان الشعوب الأول، ولكنَّنا من كثر كرع المرّ لم نعد نستطب الماء الزُّلالا، لم نعد نصدق أنَّ بإمكاننا أن ننتصر على أعدائنا، لأننا مهزومون من أنظمتنا التي ركعتنا لكل الأصنام التي شيدتها، باستثناء قمر غزَّة كلّ نجومنا آفلة، لم نعد نعرف ما معنى النَّصر المؤزَّر، سوى كعبارة في كتب التاريخ و البلاغة! ما معنى الفتح المبين؟ أصبحنا نختبئ من تاريخنا الذي صرنا أمامه أقزاماً، نمارس البطولة وحرية التعبير في الغرف المغلقة، وبين النَّاس نمشي برؤوس منكسة، نخاف أن تعلو هاماتنا فيراها الرقيب فيقصها! حتَّى النصر يبكينا بدل أن يضحكنا، فنحن مستجدون في ميدانه، وملامح الوجه المتجهم البائس لم تعتد بعد على بسطة الابتسام وتألق الثغر، ولكنَّ الأخطر من ذلك أن لا نعرف كيف نوحِّد جهودنا بعد أن كثر تشرذمنا في فرقنا بأسمائنا المختلفة!
الأخطر من ذلك أن نتربَّص ببعضنا البعض، ولا نرصّ الصفوف فتختلف الأجساد و القلوب.
الأخطر أن يرغب البعض بتسجيل النقاط دون غيره، بدل أن يدخل الميدان خافض الرَّأس حاني الظهر كما دخل الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم مكَّة ليفتح صفحة جديدة خليقة بنبي الرَّحمة ودين الرَّحمة الذي أخرج الناس من جور الأديان إلى العدل، وأعلنها الكريم بن الكريم مدويّة بياناً أوّلاً لدولة الفتح ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))،لم يحاسب أعداءَ الأمس من أهل مكَّة الذين ساموه سوء العذاب سنوات و سنوات، فللنصر أخلاق ربطها الله في سورة النصر باسمه التواب {إنه كان توابا}.
مع أنَّ البعض قد يرى النَّصر موقف انتقام وقصاص ونصب مشانق، وذلك لا ينبغي أن يكون إلاَّ مع الطغاة بحق نفس أو مال أو عرض، الطغاة الذين اختاروا بظلمهم أن يخرجوا من ذمَّة الإنسانية وعهد الآمان، وأمَّا الشعوب فيما بينها فعفو المقدرة أدعى للحفاظ على النصر والانطلاق نحو البناء.
لقد تقدمت الحركة الإسلامية في مصر ممثلة بالإخوان بخطوات سبَّاقة في المنهج الفكري والعملي عندما قدَّمت نفسها كجزء من الشعب لا تسعى للسيطرة أو الاستئثار دون بقية أطرافه، بل العمل مع الآخرين لما فيه خدمة البلاد والعباد، وهذه هي الرؤيا الإصلاحية لكلِّ مَن أراد الاقتداء بمصر على سنَّة الرَّسول الذي صالح وعاهد وأقام التحالفات بحسب المرحلة ومتطلباتها ونضوج الأمَّة وقبولها للتغيير، وحتى عندما تمكن عفا بأمر الله التوَّاب، أخطر ما بعد الثورة أن نشتغل ببعضنا ونؤجج خلافاتنا فتكون الهزيمة الحقَّة، وتذهب ريحنا وقوتنا وصدق الرافعي إذ قال: (أضيع الأمم أمَّة يختلف أبناؤها، فكيف بمن يختلفون حتى في كيف يختلفون؟!).
برء كبير جرح في مصر، وكلَّما برء جرح تدفق جرح فلسطين بالدماء، كلَّما سقط كرسي عربي زاد الأمل بسقوط دولة الهيكل، وكلَّما تزلزلت الأرض بطغاة العرب عاد الحلم أن تنهار بالصهاينة.
كلنا اليوم مصر كما كنا بالأمس تونس، أمَّا فلسطين فحالها كتلك المرأة التي خرجت للمنصور بن أبي عامر الأندلسي بعد أن عاد منصوراً على الإسبان إلى قرطبة ، ووافق رجوعه صلاة عيد الأضحى والنَّاس في المصلَّى يكبّرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت طريقه، وقالت له بقلب متفطِّر باكٍ: يا منصور، كلّ الناس مسرور إلاَّ أنا . قال المنصور: وما ذاك؟ قالت: ولدي أسير عند الصليبيين في حصن رباح، فإذا بالبطل العظيم الذي لم ينزل بعد من على ظهر جواده، يلوي عنق فرسه مباشرة، وينادى في جيشه، ألا ينزل أحدٌ من على، ثم ينطلق متوجِّها إلى حصن رباح، ويظل يجاهدهم حتَّى يجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين عندهم، ومنهم ولد العجوز.
يا تونس، يا مصر، يا كل العرب والمسلمين كلّ البلاد محرّرة إلاَّ فلسطين، وكل العواصم تحتفل إلاَّ القدس.