مجاهدات في القدس ..

الرئيسية » بصائر للأسرة والمرأة » مجاهدات في القدس ..
alt

ليس الجهاد في الإسلام حكراً على الرِّجال، و إن كان التكليف للرِّجال أشدَّ إلزاماً وأكثر وجوباً منه على النساء وبخاصة في ميدانه القتالي الذي قد يكلّل بالشهادة، وحتَّى هذه لم تكن مقصورة على الرِّجال، فشهد تاريخ الإسلام شهيدات كثر كانت أولهن سميّة أم عمَّار بن ياسر، و تقاطرت من بعدها المجاهدات والشهيدات، وتعدَّدت أدوارهنّ من أول خلافة أزواجهن في البيوت إلى المشاركة الفعلية في الحروب تمريضاً وسقايةً وقتالاً، وقد كرَّم المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم المجاهدات النساء في شخص أمّ عمارة، واعترف بفضلها في الدِّفاع عنه في أحد وبشرها وأهلها بالجنَّة، وجعل للنساء عموماً اللواتي حبسهن العذر، فحفظن أمانة الغائبين من المجاهدين في النَّفس والمال والعرض مثل أجور المجاهدين في ساحة القتال.

وقد كان للقدس وهي الأرض المباركة نصيب وافر من جهاد النساء قديماً وحديثاً؛ فكانت أوّل من سلكت الدَّرب الحنيف الذي ورثه سيّدنا محمَّد عن أبينا إبراهيم عليه السَّلام السيّدة سارة، أمّ الأنبياء التي صلَّت في القدس مع زوجها، وهذه الصلاة لم تكن فقط شعيرة تعبدية، وإنَّما هي في تاريخ بيت المقدس، كصلاة الرَّسول في رحلة الإسراء والمعراج إماماً بالأنبياء تعلن خلافة الإسلام لحنيفية إبراهيم، كما جاء في القرآن: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا }.[آل عمران:63].

وصلاة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم كانت فوق العبادة صك تمليك إلهي، وإعلان وراثة الرَّسول الأخير، كما يفسّر سيّد قطب آيات الإسراء، لمقدسات الرّسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعاً، و هي لنا من النساء وراثة عن أمنا سارة لرسالة إقامة الشعائر وإعانة الزَّوج في جهاده و ملكية المكان.

وقد وعت زوجة سيّدنا داود هذه الأمانة، فأقامت الصَّلوات من بعد سارة في القدس، وشهدت القدس في الصَّرح الممرّد إشهارَ إسلام ملكة حكيمة كانت تقود أشهر ممالك الدنيا في سبأ، ويدخل في طوعها رجال جعلوا أمرهم بين يديها وهي بلقيس، وسجلت المرأة أعظم نذور الجهاد في القدس؛ حيث كانت تعيش العائلة التي كرمها الله وفضلها على العالمين، عائلة عمران، وقد أهمّ زوجته حال العباد وبيت المقدس والرُّوم يعيثون فيه فساداً وانحلالاً، فنوت الجهاد بما تستطيعه كأمّ حامل، ونذرت جنينها لله وخدمة بيت المقدس، وهي لا تعلم أنَّ المولود سيكون أنثى، ولكنَّها أمضت نذرها ووقفت ابنتها مريم لخدمة بيت المقدس، فتقبلها ربها بقبول حسن وجعل كفيلها نبي الله زكريا، وجعلها أم نبي معجزة ولادته ورفعه وبعثه { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } [مريم:33].

معجزات تترى، ومنازل تشريف ابتدأت بنذر ونيّة من قلب امرأة صالحة مخلصة، فتولى الله إنفاذه في امرأة اصطفاها سبحانه على نساء العالمين، ونبي أرسله معجزة للعالمين، وكم تحتاج القدس في حاضرها لمثل هذه النوايا والعزائم الصادقة من الأمهات سواء أبعدت الديار عن القدس أم اقتربت، فالنفاذ والتحقيق ووقته قدر بيد الله، فهل عجزت أرحام وقلوب بنات امرأة عمران ومريم عن مثل هذه النذور؟؟؟

وكانت القدس كذلك موطن البشارة الإلهية لتلك العابدة الزاهدة القانتة، مريم ابنة عمران، بكلمة الله المسيح عيسى عليه السَّلام وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصدق بالتوراة ويبشر برسول من بعده اسمه أحمد، و في القصة ذاتها، شهدت القدس أول ثورة أخلاقية وتمسك بالفضيلة والعفة من قبل النساء على لسان مريم التي تمنّت الموت وعدم الوجود، ولا أن تقارب الفاحشة أو تُتهم بالحرام فجاءتها البراءة والتكريم من الله على لسان النّبي الصغير الذي أنطقه الله دفاعاً عن شرف أمِّه، وكم من النساء في حاضر القدس هُتكت أعراضهن وحجابهن وسترهن و لا مدافع عنهن!!!

وانتقلت الوراثة إلى السيِّدة خديجة أكمل النِّساء فكانت أول من صلَّى بعد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى بيت المقدس أولى القبلتين، و حملت زوجات الرسول هم بيت المقدس و أمانة الجهاد بالعلم و التبليغ، فروت السيّدة ميمونة عن رسول الله الحديث الذي استفتته فيه في شأن بيت المقدس إذ قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه، فإن لم تستطيعوا إليه محملاً، فابعثوا بزيت يسرج في قناديله)).
و ما الزيت الذي يُبقي المسجد الأقصى منيراً بنور الله سوى رابط قلبي وصلة وجدانية أحسن فيها الرَّسول خطاب السيّدة ميمونة، ومن بعدها من الورثة النساء صاحبات القلوب الحيَّة والضمائر اليقظة أن أدمن هذه الصلة مع المسجد الأقصى إمداداً بالنَّفس والمال والعلم والدعاء، وكذلك روت السيّدة أمّ سلمة حديثاً من أعظم الأحاديث في فضائل بيت المقدس يجعل أجر من أهلَّ بعمرة من بيت المقدس غفران ذنوبه أو الجنَّة في رواية ثانية
ثم جاءت ابنة طارق، هند بنت عتبة، التي مشت على النَّمارق في جاهليتها لتكون من بعدها خيار النساء في الإسلام، وتثبّت المسلمين بعد تراجعهم الأول في معركة اليرموك التي مهَّدت للفتح العمري لبيت المقدس، فكان لها نصيب في الفتح وأجور الفاتحين المجاهدين.

ومن على مشارف القدس في صومعة مطلة على الأقصى وقبر فوق جبل الزيتون تعلم المسلمون رقائق محبة الله عن شهيدة الحب الإلهي رابعة العدوية التي انصرفت لعبادة الله في مكان من خير بقاعه منشدة:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى  والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إنَّ صحَّ منك الود فالكل هيِّن وكل الذي فوق التراب تراب

وشاركها الدرب نفسه الزَّاهد بشر الحافي الذي ترك الدنيا لأجل بيت المقدس وكان يقول: (( لم يبق لي من لذات الدنيا إلاَّ أن أستلقي على جنبي بجامع بيت المقدس)).

أمَّا عصور الخلافات الإسلامية، فشهدت أول زواج كان مهره توحيد بلاد الشام كأول خطوة في تحرير بيت المقدس بزواج عصمت الدين خاتون، ابنة الأمير معين الدين أنر، من نور الدين زنكي، و التي أكملت مسيرتها في الدعم و التحفيز و السند لزوجها الثاني فاتح بيت المقدس صلاح الدين الأيوبي .
وورثت النساء عن أمهن زينب بنت جحش طول اليد في الخيرات، فأوقفت الكثيرات من نساء المماليك أموالهن لخدمة بيت المقدس، ومنهن السيّدة طنشق المظفرية التي وقفت قصرها للأيتام منذ 600 عام، وهو ما يزال الآن صدقة جارية لها تستخدمه مدرسة اليتيم العربي في القدس، و بالرغم مما يحيط بروكسيلانا زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني من لغط تاريخي إلاَّ أنَّ لها في القدس تكيّة توزّع الخبز على الفقراء كل يوم منذ 500 عام حتَّى يومنا هذا، وهكذا كان للنِّساء في القدس على طول تاريخها جهاد لا ينكر بالنفس والمال، وفي ميادين العبادة والعلم والاقتصاد والسياسة.

وجاءت سنديانة مقدسية لتصل ما انقطع من التاريخ، وتسترجع ميراث النساء المجاهدات في القدس، فتصمد في خيمتها على أطلال بيتها، وقد فقدت زوجها وأُغريت بالملايين وليس معها من أنيس سوى ربِّها، ولا معين سوى إيمانها ورباطة جأشها التي ساعدتها أن تؤثر بعد أن كبر العمر واحدودب الظهر وحشة الخيمة فوق أطلال بيتها المقدسي على قصور الدنيا في غير القدس مذكرة بما قالته ميسون البحدلية زوجة معاوية بن أبي سفيان التي فضلت خيمة آبائها على قصور الأمويين قائلة:

لبيت تخفق الأرياح فيه أحبُّ إلي من قصر منيف
و لبس عباءة وتقرّ عيني أحب إلي من لبس الشفوف
و أكل كسيرة من كسر بيتي أحبّ إليَّ من أكل الرّغيف
فما أبغي سوى وطني بديلا فحسبي ذاك من وطن شريف

بأم كامل الكرد أصبحنا لا نتغنّى بالتاريخ فقط، ونقول هكذا كانت أمهاتنا، فالحاضر مشرّف أيضاً والمجاهدات أخذن إرث الصمود والرِّباط، وليس بنيتهن التخلي عنه، وصدق ابن المقفع إذ قال عندما سئل: ما أمنع الحصون؟ فأجاب: المرأة الصالحة.

قد يُستهدف الأقصى وتبنى الأنفاق من تحته، وقد تُحاصر القدس وتعزل حتى لا ينفذ إليها ضوء الشمس، ولكن بقاء الأشياء ليس بحجارتها فقط، فهناك مع ذلك قدس وأقصى محفوظان بقرآن منزّه وقلوب مؤمنة بهما.
د.ديمة طهبوب

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

كيف أسلموا .. (الحلقة التاسعة عشرة)

مصعب بن عمير غصنان من سيد مكة ورائدها (قصي بن كلاب) نَبَتُوا وأورقوا فخرج من …