انشقَّت صفوف الجيش أمام فارس مغوار بسيف بتَّار.. وانطلق هذا الفارس بشجاعة هادرة وهمة نادرة، يقف أمام جيش الروم وهيبته.. ويمعن فيهم قتلا وترهيبا، فتتطاير أمام سيفه الرؤوس.. وتتناثر الأشلاء، فيسطر بشجاعة نادرة ملاحم البطولة وقصص الفداء..
ويَحارُ الجميع.. من هو هذا الفارس الملثم الذي يسابق في نيل شرف النَّصر؟؟
يا لجرأته!! كيف يتسلَّل بين جنود الروم بخفَّة وقوَّة.. ويتنقل بين جموع الكفار، فيترك صريعاً هنا، وجريحاً هناك..
ما نراه إلاَّ خالدَ بنَ الوليد (سيف الله المسلول).. ومن يملك هذه الشجاعة سوى خالد؟؟
كان هذا لسان حال المسلمين.. فقليل هم أصحاب هذه الجرأة والبسالة النادرة، ولكنَّ خالداً لا يضع لثاماً.. فمن يكون هذا الفارس ذو السيف البتار؟؟
وفيما كان الجيشان في حيرة من أمر هذا الفارس الملثم الذي اتضح أنَّه ليس خالدَ بن الوليد، وإنَّما يوازيه شجاعة.. كان الفارس يشق الصفوف فيضرب بسيفه يمنةً ويسرةً، فما يخرج إلاَّ والسيف يقطر بدم المشركين.. فيزداد ذهولهم ورعبهم، ويزداد إصرار المشركين والمسلمين على معرفة سرّ صاحب اللثام الذي أطاح بسيفه هامات الأعداء وحوَّلهم أشلاء..
وللفارس الملثم هذا قصة ورواية..
إنَّها معركة أجنادين بين الرُّوم والمسلمين في العام 624 ميلادي.. وقد خرجت النساء مع الجيش دعماً وعوناً، وللاعتناء بالجرحى والمصابين كما جرت العادة.. ومع النِّساء.. كان هنالك امرأة قدّر لها أن تسكن التاريخ، فتكون مفخرة النساء وقدوة المسلمات..
إنّها خولةُ بنتُ الأزور.. امرأة ليست كسائر النِّساء، تميَّزت بالذَّكاء والفصاحة والشَّجاعة، فكانت شامة بين نساء عصرها بما تميّزت به من صفات، تربَّت في البادية العربية مع أبناء قبيلتها بني أسد، ولازمت أخاها ضراراً، فكانا دوماً معاً، ودخلت الإسلام مع من دخل من أبناء العروبة في ذلك الزمن الأول للإسلام..
علمت خولة أنَّ أخاها ضراراً وقع أسيراً بيد جيش الروم.. فما استطاعت المكوث في الخدر وانتظار النَّصر.. وإنَّما أرادت أن تكون مشاركةً في صناعة النصر، وفي فك أسر أخاها.. فانطلقت مستبسلة، باذلةً نفسها ومهجتها في سبيل النَّصر والعزَّة والتمكين.. فكان سيفها على أشد من لهيب النَّار الحارقة على جنود الأعداء..
نعم!
خلف طيّات اللثام وجه أنثوي ناعم.. وحول قبضة السيف أنامل امرأة رقيقة تحوَّلت إلى محارب شرس ومقاتل شجاع ذوداً عن الأمَّة والكرامة.
فالفارس المقدام الذي أرعب جيش الرُّوم المهيب، ودبّ الرُّعب في قلوب أشرس المحاربين.. ذاك الفارس ليس سوى امرأة.. ولكنَّها ليست أي امرأة إنَّها خولة.. إنها فدائية عصرها.. وهي القائلة في أبيات رائعة، سطرها التاريخ بماء الذهب:
وإنا معشر من مات منــــاً فليس يموت موت المستكيـن
كم نحن اليوم، بحاجة لإحياء تلك النَّماذج الرَّائعة، في زمن نادى بتحرير المرأة، ونسي أنَّ الإسلام حرَّرها منذ أكثر من قرن مضى، فكرَّمها وصانها وكفل لها حقّها، فكانت شريكةً في الصَّبر والتضحيات والنصر..
في زمن أصبحت خولة فيه مغيّبةً عن روائع القصص.. وحلَّت محلها في بيوت المسلمات أسماء غريبة عن واقعنا وتقاليدنا، بل وديننا الحنيف..
في زمن قلّ فيه من تعرف من هي خولة أخت ضرار، ومن هي أسماء ذات النطاقين، وسميَّة الشهادة، وخنساء التضحية.. وغيرهن كثيرات من صانعات تاريخ المرأة المسلمة..
في زمن نحن فيه بأمسّ الحاجة إلى شراكة المرأة في صناعة النصر الموعود..
وفي زمن الانحناءات.. نستحضر قصة هامات شامخة صنعت لنا مجداً وفخراً لا ينسى.. فتحية إلى خولة ذاك الزّمان، وخولات هذا الزَّمان.. وتحيَّة إلى كلِّ امرأة مجاهدة في أيّ ركن من أركان الجهاد، وفي أي باب من أبوابه.
------------------------------------------
كتب للاستزادة:
- نساء فاضلات: عبد البديع صقر
- نساء لهن في التاريخ الإسلامي نصيب: د.علي إبراهيم حسن
- نساء خالدات: أ. عبد الله بن محمد بادابود