العلم سبيل لنهضة الأمم وتطوّرها، وازدهار حضارتها وتقدّمها، ويكون هذا العلم أكثر نفعاً، وأدوم أثراً، وأكثر خدمة للإنسانية، إذا كانت صفته إسلامية، ملتزمة بروح التشريع ومقاصده.
والعلم الشرعي كواحد من العلوم، يعدُّ من أهمّها وأكثرها أثراً، فهو لا يصلح أحوال الدُّنيا فقط، بل يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، ففيه صلاح النفوس والأبدان، وتزكية للقلوب والأرواح.
وذلك لأنَّ العلم الشرعي علم واقعي، إنساني متحضّر، يعالج أمور الحياة جميعها، دون الاقتصار على أمر دون آخر، وذلك كلّه في ضوء الدار الآخرة ومعاشها، ليهنأ المرءُ في حياة طيّبة، ونعيم أخروي دائم.
ولهذا كانت الأمَّة الإسلامية أمة نهضوية، حينما كان العلم واحداً من ركائز هذه النهضة، فكان يعالج الواقع، ويحل مشكلاته، ويفرض حلولاً لمشكلات قد يقع بها المكلفون في حياتهم.
وفي الوقت نفسه، كان الخلاف المعتبر بين العلماء عاملاً من العوامل المساعدة على تحقيق النهضة، إذ أدى إلى زيادة في الفهم وتوسيع للمدارك، وتعدّد للرُّؤى والاجتهادات للنُّصوص ظنية الدّلالة، ممَّا جعل هناك أفقاً واسعاً، وعقلاً واعياً، تميّز بالإنصاف، والبحث عن الحق، دون انتقاص أو محاباة، وفي الوقت نفسه، اتسم بالاحترام والتقدير، لمكانة العلماء، واجتهاداتهم وآرائهم.
لكن حينما غفلت الأمَّة عن رسالتها، وأصبح العلم مقتصراً على حفظ المتون، دون فهم لأبعادها ومراميها، وإثارة الخلاف والجدل لإثبات الذات وتفسيق الآخرين ونسب الخطأ لهم، صار معولَ هدم لصرح النهضة الشامخ، فصار أهل العلم بدل من أن يوحدوا الأفراد، ويوجدوا العلاج لمشاكلهم، إذ بهم يثيرون المشاكل، ويقسمون الأمَّة، ويضعفون قوتها، ممَّا سهَّل غزوهم واستعمارهم ونهب خيراتهم.
فعلى سبيل المثال، كانت الأمَّة الإسلامية قبيل الغزو الصليبي، ترزح تحت نير الخلاف المذهبي والعصبية المقيتة، فتحوّل النقاش والمناظرة، إلى مراء ومكابرة، بل وإلى صراع واقتتال.
فوقعت الفتن – مثلاً - بين الشافعية والحنابلة، أو الأشاعرة والحنابلة، وسفكت الدماء، وكانت أسبابها عائدة لمسائل جزئية خلافية، اختلف عليها أئمتنا من السَّلف رحمهم الله، فتراجعت مكانتهم، وزالت هيبتهم، مما أغرى أعداء الإسلام باحتلالهم والسيطرة عليهم.
إنَّ هؤلاء الذين اشتغلوا بأخطاء من سبقوهم، لم يكن لهم أيّ أثر في مسيرة نهضة الأمَّة وتحقيق التغيير فيها، وتحريرها من براثن الاحتلال الخارجي والداخلي.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ العلم ما كان ليفرق وحدة الصف، وما كان التشريع الإسلامي ليمنح بعض الناس صلاحية التكفير والإخراج من الملة ووصف من شاؤوا بالكفر والفسق، دون غيرهم ممن يماثلهم بالعلم، أو يعلوهم درجة ومنزلة.
بل إنَّ من صور الإخلال بفهم الرِّسالة العلمية، أن نرى من ينبري للطعن بشخوص الأئمَّة، أو ينتقص من مذاهبهم، وينعتها بأسوأ الصِّفات، ويرى نفسه منزهاً عن كلّ نقص وعيب، وعن كل زلل وخطأ.
إنَّ هؤلاء الذين اشتغلوا بأخطاء من سبقوهم، لم يكن لهم أيّ أثر في مسيرة نهضة الأمَّة وتحقيق التغيير فيها، وتحريرها من براثن الاحتلال الخارجي والداخلي.
ومع بالغ الأسف، ما زال البعض في عصرنا الحالي يعيدون تلك المسائل التي مضى عليها قروناً من الزَّمن، ليس لدراستها من ناحية علمية، بل ليصوّب ويخطّأ أصحابها، وينتقص من قيمتهم وقدرهم، وكأن هؤلاء بإحياء تلك المسائل بهذه الطريقة، يوجدون الحل لذاك الخلاف، الذي يؤيّد كلّ رأي من آرائه جهابذة من العلماء والفقهاء.
والأدهى من ذلك، غياب فقه الأولويات، ومعالجة الواقع، ففي خضم ما تعيش الأمة وتعاني، نجد هذه الفئة تعود لتلك الدوائر اللامنتهية، والمراء المنهي عنه، وينسون الواقع الذي يحتاج منهم لوقفة جادة، وجهود شاقة لتصويب وترشيد وتأييد لما تقوم به الأمَّة من حراك طبيعي لتنهض من جديد، فترتقي إلى مجدها وعزتها وحريتها.
إنَّ العالم الحقيقي، عالم واقعي، فعلمه يحترم الواقع، ويقدّم المسائل المعاصرة على غيرها، ولا يبتعد عما تعيشه الأمة، بحيث ينشغل عنها بمناقشة مسائل تثير الخلاف والفرقة، والنزاع والفوضى.
إنَّ العالم الحقيقي، عالم واقعي، فعلمه يحترم الواقع، ويقدّم المسائل المعاصرة على غيرها، ولا يبتعد عما تعيشه الأمة، بحيث ينشغل عنها بمناقشة مسائل تثير الخلاف والفرقة، والنزاع والفوضى.
إنَّ الفوضى في فهم رسالة العلم الشرعي لدى البعض، أوقعهم في حرج شديد، حينما احتاجت الأمَّة لهم، فهم إمَّا غائبون، أو معارضون للمنهج الحقيقي للأّمة، والذي ينبغي للعالم أن يقوم به.
ولهذا، فإنَّ مَنْ غابت عنه روح العلم وفلسفته، إذا حفظ متناً من متونه، أو قرأ كتابا من كتبه، ظنَّ أنَّه ملك القدرة على الجرح والتعديل، والتكفير والتفسيق، فصار واحداً من المعوقات التي تعيق تقدّم الأمّة ونهضتها، وتساعد على تخلفها وتراجعها وضعفها، وتقبلها للطواغيت والاستبداد والاحتلال والاستعمار.
ولذا، آن لطلبة العلم والعلماء، أن يعيدوا مراجعة طبيعة تعاملهم مع المسائل الخلافية، فشتان بين دراسة الرأي بموضوعية، أو انتقاصه بعصبية.
وفي الوقت نفسه، لابدَّ من مراعاة فقه الأولويات، في معالجة المسائل والقضايا، فلا يصح أن نختلف ونتنازع حول مسألة من مسائل العقيدة مثلاً والتي أشبعت خلافاً وبحثاً، والأمَّة تنهض لتستعيد حريتها وكرامتها، ممَّن سلبوا أبسط حقوق العيش منها، وتقاوم الاحتلال المجرم الذي دنس المقدسات، وانتهك الحرمات.
إنَّ الفقهاءَ المجدّدين في تطبيق مفردات الشرع على متغيرات الواقع، قادوا الأمَّة نحو النهوض والعزَّة، وحرَّروها من كلّ معالم الاستبداد والطغيان، فصاروا أعلاماً نذكرهم في كل وقت وكل حين.
ومن ناحية أخرى، لابد أن يكون هناك مراجعة لطبيعة الخطاب والرؤية للمسائل الاجتهادية في وقتنا الحالي، فالمسائل التي لم يرد فيها نص، لا يمكن أن تعالج بنفس الطريقة التي كان الأئمَّة يعالجونها في القرن الرابع الهجري على سبيل المثال.
إنَّ الفقهاءَ المجدّدين في تطبيق مفردات الشرع على متغيرات الواقع، قادوا الأمَّة نحو النهوض والعزَّة، وحرَّروها من كلّ معالم الاستبداد والطغيان، فصاروا أعلاماً نذكرهم في كل وقت وكل حين.
إنَّ الشعوب ترقب العالم الرَّباني الذي يقف معها، ويصوّب ويرشّد نهضتها؛ ذلك لأنَّها تحتاجهم كما تحتاج للماء والهواء في بقاء نفوسها على قيد الحياة. وذلك لأنَّها تعلم أنَّ العلماءَ أساس النَّهضة، ووقودها وعوامل نموّها.