بصائر
الحب: أكثر الكلمات تداولاً في قاموس البشرية جمعاء، أكثر الكلمات وضوحاً و أكثرها غموضاً، أشدّها تعبيراً عن الصّدق وأشدها تجلية للزّيف، مضغة في فم من يجيد فنون الكلام والتزين، جوهرة مكنونة في القلب لمن أدرك خفايا اللطف والود وجمال الحياء والستر عن المتطفلين، محصور لمن ضاق أفقه فيما بين رجل و امرأة، محلق بين سماوات سبع و أراضين سبع بملائكة تنادي من لدن ربّ ودود "ما وسعتني سمائي و لا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن".
و ما بين التحليق والهبوط معين من المعاني و منظرون و مصلحون و مفسدون و من قبل و بعد قوانين إلهية تحكم نواميس الحب لتميز الخبيث من الطيب، وأعظم درجات الحب و أرقاها محبة الله سبحانه و تعالى التي تنبثق منها جميع المحاب و قد ورد في الظلال في تفسير الحب في قوله تعالى :{يحبهم و يحبونه} في سورة المائدة: "هو الحب و الرِّضى المتبادل بين العباد و ربهم، هذا الروح السّاري اللطيف الرفاف المشرق، و حب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلاَّ من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه و إلاَّ من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه و نفسه و شعوره و كينونته كلها. و حب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلاَّ من ذاقها، و هو إنعام هائل عظيم و فضل غامر جزيل).
و قد ذكر العلماء أنَّ محبَّة الله جزء من الإيمان تزيد بقوته أو هي سبب في زيادته وتنقص بفتوره، ومن الأسباب المحفزة على محبة الله قطع علائق الدنيا من القلب و زيادة معرفة الله بأسمائه و صفاته و التخلق بها في واقع الحياة، و قد ورد في الأثر أن الله سبحانه و تعالى أوحى إلى بعض عباده: "إنَّ لي عباداً من عبادي يحبّوني وأحبهم، وأشتاق إليهم و يشتاقون إلي، و يذكروني و أذكرهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا رب و ما علامتهم؟ قال: يرعون الظلال بالنَّهار كما يرعى الشفيق غنمه و يحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنّهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا أقدامهم وافترشوا وجوههم و ناجوني بكلامي وتملقوني بأنعامي، فبين صارخ و باك، و بين متأوه و شاك، و بين قائم و قاعد، وبين راكع و ساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، و بسمعي ما يشكون من حبي".
وهذا الحب لا ينفك عن محبَّة خير الخلق سيّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم التي بها كمال الإيمان، محبَّة فوق محبَّة المرء لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين، محبَّة لمن سبق أتباعه بالمحبَّة فادَّخر لهم شفاعته في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وبثّهم شوقه في حديث يوصل محبته إلى كلّ من تبعه على دين الإسلام إلى يوم القيامة فقال لصحابته وإخوانه: اشتقت إلى أحبابي، أقوام يؤمنون به صلَّى الله عليه وسلّم ولم يروه، و لعلَّ هذا الزَّمن المنتكس الذي يتاجر بالحب و معانيه السَّامية، الذي تجرأ فيه الحثالة على سيّد ولد آدم وأكرم من وطأ التراب لهو أيضاً زمن إثبات المحبَّة من أتباعه بالتمسك بسنته صلَّى الله عليه وسلَّم والعض عليها بالنواجذ.
من الأسباب المحفزة على محبة الله قطع علائق الدنيا من القلب و زيادة معرفة الله بأسمائه و صفاته و التخلق بها في واقع الحياة
ولمَّا أودع الله في النفس البشرية شِقّي الخير والشر والفجور والتقوى، انسحبت هاتين الطبيعتين على جميع مشاعر الإنسان وتصرفاته، فصير الحب محموداً ومرغوباً يصعد كلماً طيّباً وعملاً صالحاً متقبّلاً، يزكو و ينمو عند ربّ العزّة، أو يرتد فجوراً ومعصيةً وشهوة حيوانية، ولذا قيّد الإسلام الحبّ بما يكفل صفاءه وأحاطه بالعفة والحياء وغض البصر وقصر النظر الذي يعدُّ أوَّل المداخل للحب، فجاء في حديث ضعفه بعض أهل العلم و صححه بعضهم الآخر: "من أحبَّ فعفَّ فمات فهو شهيد"، و جعل الصوم للشباب غير القادرين على أكمال حبّهم بالزَّواج وقاية من الوقوع في الخطيئة، وحثّهم على غض البصر، وجعل أجرهم نوراً وبصيرة يقذفها الله في قلوبهم، ورغبهم في سلوك طريق الأنبياء فقال في ذلك احد الصالحين: " من ملك شهوته في حال شبيبته صيره الله ملكا في حال كهولته كيوسف عليه السلام ألم يقل سبحانه: {إنَّه من يتق و يصبر، فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين}؟.
و قد تفتق العرب بما منحته لهم جزالة العربية ورقة اللغة والتشبيهات والصور، فوضعوا أسماء متعدّدة للحب تبين درجاته وارتقاء المحبين في منازله، فقالوا: إنَّ أصل كلمة الحب الصفاء، لأنَّ العرب تقول لصفاء بياض الأسنان حبب الأسنان، وقالوا: الكلمة مأخوذة من الحب جمع حبه، وهو لباب الشيء وخالصه وأصله، وقيل: بل مأخوذة من حبة القلب، وهي سويداؤه، ويقال: ثمرته فسميت المحبَّة، لذلك لوصولها إلى حبة القلب، ووضع العرب للحب أسماء متعدّدة؛ منها الهوى والصبوة والصبابة والشغف والوجد والعشق والجوى والتباريح واللَّوع والخبل والوله، وقالوا في تعريف الحب: هو الميل الدائم بالقلب الهائم و إيثار المحبوب على جميع المصحوب، وثبات القلب على أحكام الغرام، ولو زاد فيه الملام، و قال أهل التصوف في تعريف محبة الله: إنَّه موافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وهو الإحسان الذي ذكره حديث المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يعبد الإنسان الله كأنَّه يراه.
وقد اختلف المنظرون في مقدمات الحب ما يقود إليه، وهل هي الحواس الخمسة أم أشياء غير منظورة، أم تقادير خفيَّة، وفي وصف بعض المقدّمات. قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
ففراق يكون فيه دواء أو فراق يكون منه الداء
وعلى عكس ما يتداوله الناَّس من أنَّ هذا البيت تشجيع على سلوك هذه المسالك لبلوغ الحب، فإنَّ الشاعر عنون ذات القصيدة بكلمة "خدعوها" و مطلعها:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهن الثناء
وفي نفسه أن يقول: إنَّ هذه الطرق ليست إلاَّ ضلالة و سراباً لا تركض وراءها إلاَّ من خلت نفسها من ماء الحياء و الطهر.
وأمَّا زمرة المجانين، عذريين وغير عذريين، فلهم عند العرب تاريخ وحاضر ومستقبل فرّخَ زُمَراً من المجانين على أثرهم بالرغم أنَّهم ما نالوا من الحب إلاَّ اسمه، أما كماله واكتماله فماتوا دون تحقيقه؛ كقيس ليلى و جميل بثينة، ولقد كان حب جميل لبثينه شرارته سبّ وبغض قال فيه:
وأول ما قاد المودة بيننا بواد بغيض يا بثين سباب
فقلت لها قولا فجاءت بمثله لكل كلام يا بثين جواب
وقد أورد الأصمعي من قصص المجانين قصة شاب عاشق كانت نهايته أن نحر نفسه بالهوى، كتب إلى الأصمعي يسأله:
أيا معشر العشَّاق، بالله خبروا إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع؟
فرد عليه الأصمعي:
يداري هواه ثم يكتم سره ويخشع في كل الأمور ويخضع
فسأله الشاب ثانيا:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم قلبه يتقطع
فرد الأصمعي:
إذا لم يجد كتماناً لسره فليس له شيء سوى الموت ينفع
في اليوم التالي وجد الشاب ملقى وقد قتل نفسه وبجانبه رسالة:
سمعنا فأطعنا ثم متنا فبلغوا سلامي إلى من كان بالوصل يمنع
هنيئاً لأرباب النَّعيم نعيمهم وللعاشق المسكين ما يتجرّع
قيّد الإسلام الحبّ بما يكفل صفاءه وأحاطه بالعفة والحياء وغض البصر وقصر النظر الذي يعدُّ أوَّل المداخل للحب
أمَّا الرافعي، فقد أبدع في تصوير ما يمكن أن يسمى بالحب التكاملي الذي يبدأ بشعور قلبي لشخص أو أشخاص حتى يشمل العالم بأسره فقال: "ليس بحب إلاَّ ما عرفته ارتقاء نفسيا تعلو فيه الروح من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبره، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانا فأجللته و أكبرته، و الحب بعض الإيمان، و كما أن الطريق إلى الجنة من الإيمان بكل قوى النفس، فإن الطريق إلى الحب من قوة لا تنقص عن الإيمان إلاَّ قليلاً، والخطوة التي تقطع مسافة قصيرة إلى القلب، تقطع مسافة طويلة إلى السماء"
و بهذا الطهر والخلود تسوق لنا السيرة النبوية نماذج مفعمة بالحب في أعمق صوره فنجد معلم الأمَّة صلَّى الله عليه وسلَّم يقول عن زوجته السيِّدة خديجة رضي الله عنها أنه رُزق حبّها، ويعترف لها بفضل الإيواء و النصرة، والسند عندما حاربه العالم و خلا ممَّن يؤنسه إلاَّها، و يصرّح تصريحاً لا لبس فيه ليعلم رجال أمته من الأزواج ضرورة التصريح بالحب أن أحب الناس إليه السيّدة عائشة رضي الله عنها.
وقد وعى بعض المصلحين والدعاة هذا الفقه المتكامل في الحب، فوضعوا كتبا بعنوان (الدعوة إلى الله حب)، حب يحمل الدعاة إلى الاصطبار على النَّاس وأخذهم بالود و اللين والموعظة الحسنة، ليستقيموا على طريق الخير، ولسان حالهم مع أقوامهم ما قاله أحد الدّعاة: "و نحب أن يعلم قومنا أنَّهم أحبّ إلينا من أنفسنا، وأنَّه حبيب إلى نفوسنا أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء و أن تزهق ثمنا لمجدهم وكرامتهم و دينهم و آمالهم إن كان فيها الفناء وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلاَّ هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا فأقضت مضاجعنا وأسالت مدامعنا، وأنه عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا فنحن لكم أيها الأحباب و لن نكون عليكم يوما من الأيام".
ختاماً، عندما تدهور نظر جدتي من البكاء على جدّي رحمه الله، وهي التي أمضت معه خمسين سنة من الحياة الزوجية، لم يرها قبل زواجه بها سوى مرَّات تعدّ على أصابع اليد، أدركت أنَّ في الحبَّ شيئاً آخر غير ما قرأته في الكتب، عندما كنت أنظر للوهج في عينيهما، للغضب إذا سافر أو بعد أحدهما عن الآخر، أدركت أن هناك سرّاً يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده، فيتحابون به ملِاكه ما جاء في القول أنَّ ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
د.ديمة طهبوب