خاص – بصائر
لا شكَّ أنَّ ما وقع في تونس ومصر خلال الأسابيع الماضية يمثّل تحوّلاً كبيراً في فكر وأسلوب حياة الشعوب العربية، حيث انتفض الشعبين التونسي والمصري ضد الظلم والقهر والفساد وسطوة الحكم، في بداية لتحقيق آمال التغيير في كلِّ الدول العربية والإسلامية.
لقد رسَّخت ثورتا المصريين والتونسيين قيمة غاية في الأهمية، مفادها أنَّ الشعوب حينما تستيقظ من غفلتها وتستعيد إرادتها، تتعاظم قواها، ويصغر أمامها الباطل وينزوي وينقرض ويتلاشى ويزهق.
الإسلام والثورة..
نجاح الثورات الشعبية في تونس ومصر كوسيلة للإصلاح والتغيير يثير جدلية الحديث عن المنهج الإسلامي في الإصلاح والتغيير، وهل الإسلام يحث على الثورة على الظلم أم لا؟ ويجيب على هذا التساؤل ما طرحه الإمام الشهيد حسن البنا في ((كتاب عظات منبرية من كتب تراث البنا))، والذي يقول فيه: (إذا كانت الثورة الفرنسية قد أقرَّت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والمساواة والإخاء، وإذا كانت الثورة الروسية قاربت بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية في النَّاس؛ فإنَّ الثورة الإسلامية الكبرى قد أقرَّت ذلك كلّه من قبل ألف وسبعمئة سنة، ولكنَّها سبقت سبقًا لن تلحق فيه، في أنَّها جملت ذلك وزينته بالصِّدق والعمل؛ فلم تقف عند حدود النظريات الفلسفية، ولكن أشاعت هذه المبادئ فى الحياة اليومية العملية، وأضافت إليه بعد ذلك السمو بالإنسان واستكمال فضائله ونزعاته الرُّوحية والنفسانية؛ لينعم في الحياتين، ويظفر بالسَّعادتين، وأقامت على ذلك كلّه حراسًا أشداء أقوياء من يقظة الضَّمير، ومعرفة الله وصرامة الجزاء وعدالة القانون.
وأشار البنا إلى أنَّ من الناس من يذهب به الجهل بالإسلام، فيظن الإسلام عقبة فى طريق الإصلاح، وإضعافًا لروح المقاومة والكفاح، وصرفًا للجماهير عن تعرف حقوقها، ومحذّراً إيَّاهم عن المطالبة بها والجهاد فى سبيلها، وهو لذلك يحاربه أشد المحاربة، ويتجنّى عليه أعظم التجنّي، ويصف أهله والعاملين له والدَّاعين إليه بأنَّهم دعاة الرَّجعية والتأخر، وخصوم التقدم والتحرّر... ويقول: لقد نسي الجميع أنَّ الإسلام في غايته ووسيلته ثورة كبرى، تتضاءل دونها نظريًا وعمليًا وتاريخيًا آثار الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية.
الحركة الإسلامية وثورة 25 يناير..
ولعلَّ مشاركة الحركة الإسلامية في مصر بكلِّ أطيافها في ثورة 25 يناير، ودعمها لها بكلِّ قوَّة، تعدُّ برهاناً صادقاً على منهاج الحركة الإسلامية في التغيير وانحيازها لقضايا الناس الحياتية، وللقيم التي حرص الإسلام على كفالتها للجميع؛ مثل الأمن والعدل والحرية والمساواة، فلم يتقوقع أبناء الحركة وينغلقوا على أنفسهم بدعوى أنَّ هذه الثورة بعيدة عن السعي لإقامة المشروع الإسلامي، بل تحرَّكوا من منطلق أنَّ الانتصار لقيم العدل والحرية والمساواة، والانتصار لحقوق الإنسان هي من الأركان الأساسية للدولة الإسلامية التي تستهدف في الأساس ضمان هذه الحقوق وحمايتها.
الإخوان والثورة..
يؤمن الإخوان المسلمون أنَّ المنهج الإصلاحي التربوي هو المنهج المعتمد لديها كوسيلة للتغيير والإصلاح، فيشير الإمام الشهيد إلى أنَّ التغيير الذي تهدف اليه الحركة الاسلامية هو إيقاظ شعور الشعوب على قواعد الإسلام، وتعاليم الإسلام، ومبادئ الإسلام، يستهدف تغيير شامل عميق للفرد والمجتمع شريطة ألاَّ يجبر عليه أحد، فيجب أن يكون عن إرادة واختيار وإيمان، فهو ليس مجرَّد تبديل حكومة بأخرى ترفع شعارات أو توقع قرارات شكلية لإحداث هذا التغيير، ولكن لإحداثه وبقائه، فإنَّه يجب أن يكون مستندا إلى قناعة وإيمان الناس ومطالبتهم به.
كما يرى البنا أنَّ التغيير لابدَّ أن يكون جذريا؛ والتغيير الجذري يختلف عن التغيير الفوقي، لأنَّه يحدث عن طريق إيجاد قناعة لدى وحدات المجتمع بالتمسك بشرائع الإسلام.
وقد لعبت جماعة الإخوان المسلمين دوراً كبيراً في الساحة المصرية خاصة في عام 2005م، الذى شهد إنتخابات برلمانية حصل خلالها الإخوان على 88 مقعداً، وتنظيم عشرات التظاهرات للمطالبة بالإصلاح والتغيير، وبلغت ذروة الحراك السياسي في الاشتراك بكلِّ قوَّة مع باقي قوى المجتمع والشعب المصري في ثورة 25 يناير 2011م.
السلفية والثورة..
كان الانطباع المأخوذ عن التيّار السلفي أنَّه فصيل واحد لا يؤمن بالمشاركة السياسية، والتغيير لديه يختزل في العبادات فقط، إلى أن بدأ فصيل سلفي يعرف بالسلفية الحركية ويرأسة الشيخ نشأت إبراهيم في المشاركة بقوَّة في فعاليات الثورة، ولم يكن هذا مستغرباً على المطّلعين على تركيبة التيار السلفي في مصر؛ إذ من المعروف إيمان هذا الفصيل بالعمل من أجل الإصلاح، والمشاركة في التظاهرات الشعبية خاصة الدَّاعمة للقضية الفلسطينية.
بل وتولّدت في ظل الثورة حركة جديدة تعرف بالحركة السلفية من أجل الإصلاح، والتي شاركت في المظاهرت يوم 25 يناير 2011م، مشيرة إلى أنَّه ليس هناك مانع من المشاركة في الثورة إذا كان يُراد منها الإنكار على النّظام الحاكم آثامه وجرائمه في حق الشعب المصري والأمَّة الإسلامية، خاصة فيما يتعلَّق بعدم تحكيم الشريعة، والاستهانة بحقوق الإنسان، ونهب المال العام، ونحو ذلك فإنَّها مظاهرات ينبغي تأييدها، والمشاركة فيها من منطلق الدور الرِّسالي الذي أناطه الله بهذه الأمة، حيث قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.
بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا إنه لا يضر هذه المظاهرات كون كثير من منظميها من العلمانيين، فإن المنكر الذي نشترك معهم في إنكاره لا يقتضي إقرارهم على آثامهم أو أخطائهم الأخرى، فعموم الناس وخصوصهم يعلمون موقف الإسلاميين من العلمانية والليبرالية.
وأشاروا إلى أنَّه في شريعة الإسلام الغرَّاء شواهد كثيرة على جواز التعاون مع غير المؤمنين في الأمور المتفق عليها أو فيما فيه جلب مصلحة مشتركة أو دفع مفسدة مشتركة، بل إنَّ في مشاركة هؤلاء نوعاً من التَّواصي بالحق وبالصَّبر، وهو من أهمّ علامات أهل الإيمان.
مكاسب الثورة..
لقد جنت الحركة الإسلامية في مصر الكثير من المكاسب فترة الثورة وبعدها، فقد نجح أبناء الحركة في التواصل بشكل كبير مع أبناء المجتمع المصري بكل طوائفه، وبدأوا في رسم صورة ذهنية مختلفة عن الصورة التي ترسخت بفعل الآلة الإعلامية للنِّظام المصري المخلوع في أذهان البعض عن الحركة الإسلامية ومواقفها، وهذا ينطبق أيضاً على الصُّورة الذهنية للحركة الإسلامية لدى المجتمع الدولي الذى يقرأ الإخوان بشكل مختلف، وبدأت تظهر بعض المطالب التي تشدّد على ضرورة دمج الإخوان في المنظومة الرَّسمية للدولة.
بدأت تجليات مكاسب الثورة في طلب نائب الرّئيس المخلوع اللّواء عمر سليمان الحوار مع الإخوان، ساعياً بذلك للحصول على شرعية لنظامه من جماعة طالما ظلَّ نظام مبارك المخلوع يصفها بالمحظورة، تبع ذلك على الفور استضافة رموز الحركة في التلفزيون والصَّحافة الرَّسمية دون إلصاق لقب المحظورة، الذي اقترن باسم الإخوان إبَّان حكم الرَّئيس المخلوع مبارك، وتعدَّى الإخوان هذه المرحلة إلى مرحلة الإعلان عن تأسيس حزب سياسي باسم ((الحرية والعدالة)) للاندماج في العملية السياسية الرسمية.
أمَّا "الجماعة الإسلامية"، المسؤولة عن موجة العنف الاسلامي التي شهدتها مصر في تسعينات القرن الماضي، فقد عادت للظهور للمرة الاولى منذ عشرين عاما في اجتماع عقده قادتها، وأعلنوا خلاله عن استئناف نشاطهم الدعوي إثر سقوط نظام مبارك المخلوع.
كما لوحظ مؤخراً وجود نشاط كبير للجماعات السلفية، التي أصبحت توزّع علناً، وعلى نطاق واسع المنشورات التي تدعو لأفكارها، وهو ما اعتبره خبراء من حجم الدكتور ضياء رشوان الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أنَّ هذه (الظاهرة صحية ومظهر إيجابي لا يدعو إلى الخوف لأنَّه يجسّد فكرة التعدّدية)، وقال: (إذا كنا ننادي بالحرية والديمقراطية، فمن الطبيعي أن يكون هناك نشاط للتيار الإسلامي شأنه شأن التيار اليساري أو الاشتراكي أو اليميني، فهو بالتَّأكيد جزء من الحالة السياسية في مصر).