الاستشارة : إخواني الأعزَّاء؛ أعزَّهم الله بالخير والإيمان، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، لديَّ مشكلة اجتماعية مع زوجتي، وأرجو أن تفيدوني وتساعدوني في حلّها، وجزاكم الله خيراً.
أنا شاب في الأربعين من عمري، تزوَّجت منذ 19 عاماً، من امرأة أهلها ينتمون إلى مذهب غير مذهبي، ومتعصبون جدّاً لمذهبهم، وكان دافعي من الزَّواج بها هو أنَّني علمت من بعض معارفي أن تسنَّنت، وتخاف على نفسها من الفتنة مع أهلها، فتقدَّمت للزَّواج منها ابتغاءً للأجر والثواب.
وبعد الزَّواج بمدَّة قصيرة تبيَّن لي أنَّها تعاني من الوسواس في الصَّلاة والوضوء، واكتشفت أيضاً أنَّ عقلها وتصرّفاتها غير طبيعية، بحيث إنَّها تشك في كلِّ شيء، ولا تحسن التصرّف في بيتها أو مع زوجها، وقد سبَّبت لي الكثير من المتاعب مع الأهل والجيران والأصدقاء، لأنَّها لا تسمع الكلام، أحياناً أكرِّر عليها الأمر والكلمة والطلب عشرات المرَّات، فتقول: نعم، نعم، نعم، ثم لا تلتزم بشي، وأنا أعذرها في كثير من الأحيان، لأنّي أعتقد أنَّها لا تتعمَّد المخالفة، ولكن يظهر والله أعلم أنَّ ما تقوم به بسبب المرض الذي تعاني منه، والذي كنت أعتقد أنَّه مسٌّ أو سحر، وقد قمت برقيتها مدَّة طويلة من الزَّمن بنفسي وبواسطة بعض الإخوة الصَّالحين، ولكن دون جدوى.
لديَّ منها الآن خمسة أطفال، جميعهم يعانون من تصرّفاتها معاناة شديدة بسبب إهمالها لهم، وبسبب أنَّها تقضي أوقات طويلة في الحمَّام والوضوء، ممَّا يسبب في تأخرّها في الغالب عن رعايتهم وتلبية طلباتهم، وقد كانت تمرّ عليها أيام وأسابيع فلا تستطيع أداء الصَّلاة المفروضة، ولا تصوم في رمضان أحياناً، لأنَّها تعتقد أنَّ صلاتها وصيامها تبطل بسبب الضّحك أو عدم صحة وضوئها، وهي تقوم بعد وقبل كلّ صلاة بالسؤال عن كيفية الصَّلاة، ومبطلاتها، وهل صلاتها صحيحة أم لا ؟ حتَّى أنَّ كلَّ النَّاس المحيطين بها كانوا يشعرون بالملل والضّيق منها، ولم يصبر عليها أحد غيري، والحمد لله.
سافرت من بلدي لغرض الدّراسة وأخذتها والأولاد معي، فعانيت طوال مدَّة الدِّراسة من تصرّفاتها أشدَّ المعاناة، لأنَّها كانت تشك في كلِّ شيء حولها، وتعصِّب (تغضب) بشكل كبير، وترفع صوتها عليَّ وعلى الأولاد باستمرار، حتَّى إنَّها مزَّقت ثيابي مرَّة لأسباب تافهة.
وبعد ستة عشر عاماً من الزَّواج، تزوَّجت بامرأة ثانية، وقد أخذتها أرملة ولديها بنت يتيمة، علماً أنَّي كان بإمكاني أن أتزوَّج امرأة بكراً، وبسهولة ولله الحمد، ولكنّي آثرت أن أتزوَّج بالأرملة ابتغاءَ الأجر فيها وفي ابنتها اليتيمة من جهة، ومن جهة أخرى أحاول قدر الإمكان عدم إثارة زوجتي الأولى بشكل كبير، وكانت زوجتي الجديدة فعلاً أمّاً صالحة لأولادي، وزوجة صالحة والحمد لله، حتَّى إنَّها كانت تتحاشى التجمّل أو الاعتناء بنفسها أمام الزّوجة الكبيرة، وكانت تحاول قدر الإمكان التقرّب إليها بكل الوسائل، ولكنَّ الزَّوجة الأولى كانت تصرّ دائماً على أنَّ زواجي غير صحيح، وبدأت تألِّب النَّاس والأبناء، وتُنْعت المرأة بكلِّ الأوصاف والنعوت السيّئة، حتَّى إنَّها ضربتها بالحذاء، فضلاً عن الشتم والقذف والسب وتأليب النَّاس والأطفال، وكنت دائماً أحاول إصلاحها بكل الوسائل ولكن دون جدوى، فكنت أزرع الحب بين الأبناء والبنت اليتيمة، ولكنَّها كانت تزرع البغض والضغينة، وتألِّب الأولاد على اليتيمة، وتعلمهم بغضها وكرهها، حتى إنَّهم تحوَّلوا من محبّين إلى مبغضين، ومن مسالمين إلى أعداء متوحشين للبنت اليتيمة وأمّها.
هذه التصرّفات المؤذية لي ولزوجتي الجديدة وابنتها دفعتنا لترك البنت اليتيمة عند جدّتها ممَّا تسبَّب في مزيد من الضغط النفسي على البنت وأمّها، بسبب البعد والفراق، وذلك لأننا كنا نعيش في دولة غير الدولة التي كانت تعيش فيها الجدّة.
فكَّرت كثيراً بطلاقها بصراحة، ولكن كلَّما أتذكَّر أنَّ لها أهلاً من مذهب آخر، وهم لا يريدونها، ولا يرغبون حتَّى بمجرّد زيارتها لهم، أعاود وأتراجع عن قرار الطَّلاق، علماً بأنِّي طلقتها مرَّتين قبل ذلك، ولم يبق لها إلاَّ طلقة واحدة، علماً أنِّي في الفترة الأخيرة لم أعد أبيت عندها بشكل متساوٍ مع الزَّوجة الثانية، وببساطة لأنَّها لا تمل ولا تكل من الكلام البذيء عليَّ وعلى زوجتي الثانية، ولا تسمع النصح ولا تكترث له.
وفي النهاية أرشدني بعض الناس إلى طبيبة نفسانية مجرّبة وممتازة، فأخذتها مباشرة إليها، فقالت الطبيبة: إنَّ زوجتي تعاني من الوسواس القهري مع انفصام في الشخصية، ونصحتني أن أجري لها عملية تخديج، أي صعق بواسطة الكهرباء، فأجريت لها العملية مباشرة، وفعلاً تحسنت بشكل كبير وملحوظ بعد العملية، وكان تحسنها بأن صارت لا (تتنرفز) ولا تشك وطيّبة مع كلّ من حولها، وتقضي فترات طويلة بالنَّوم والراحة دون أن تسبب أيّ إزعاج للآخرين، ممَّا انعكس على كل أفراد الأسرة بالرَّاحة، غير أنَّ الطبيبة حذَّرتني بأنَّ حالتها قد تعود إليها بعد مدَّة من الزَّمن، وهذا يستدعي إجراء عملية تخديج أخرى، وهكذا إلى أن يزول عنها المرض بشكل نهائي.
وفعلاً رجعت إلى حالتها بعد تسع شهور من العملية، وقد رجعت بأشدّ ممَّا كانت عليه، فصارت شريرة معي تحديداً، فأصبحت لا تكتفي بالكلام واللسان الطويل والاتهامات لي ولزوجتي بالباطل، بل صارت تتحدَّث للناس وتصوّر لهم غير الحقيقة، فتذكر للجيران والمعارف أنَّها امرأة مسكينة، ولم تعتد على أحد، وأنَّها عاقلة، وكلّ ما يقال عنها هو محض افتراء، وهي مستمرة بهذا الأسلوب، ولا تسمع كلامي عندما أمنعها من الخروج، بل تصرّ وتقول: إني لست زوجًا لها، لأنِّي لم أوف حقوقها على زعمها، وقد حاولت معها لإجراء عملية من جديد، ولكنَّها ترفض رفضاً قاطعاً، بل تركت حتَّى الأدوية المهدئة التي كانت تتناولها، وأنا مستمر حاليا بهجرانها بشكل كامل، غير أنّي لا أمنع عنها الأطفال، فقد استأجرت لها بيتاً قريباً من بيتي، وأبناؤها يذهبون إليها كلّ يوم، ويقومون بتلبية احتياجاتها، وأنا ألزمهم أيضاً بالمبيت عندها بشكل متعاقب ولا أقبل أن تترك وحدها أبداً.
علماً بأنّي حاولت مراراً وتكراراً أن أبيت عندها بشكل متساو مع الزوجة الأخرى، غير أنَّها لا تكل ولا تمل من الكلام المزعج والاستفزازي، والدّعاء عليَّ وعلى زوجتي الثانية، تصوّروا أنَّها تصلِّي فرضاً أو فرضين في الأسبوع بحجة الوسواس، ولكنَّها تقوم الليل كلّه من أجل الدّعاء عليَّ وعلى زوجتي، وتكلمني بلسان سليط، بالتهديد والوعيد بأنَّها سوف تفضحني أمام النَّاس، وأن الله سيبعث عليَّ صاعقة من السَّماء إذا لم أتب وغير ذلك من الكلام، وأنا والله يشهد أنّي لا أكلِّمها إلاَّ بالنَّصيحة والهدوء في غالب الأحيان، ولم أترك المبيت عندها إلاَّ لأنّي صار الصداع يستمر عندي بمجرّد رؤيتها، وأن ضغطي يرتفع جداً بسببها، علماً أنَّ صحتي جيِّدة والحمد لله، ولكنِّي صرت بسببها أتعرّض لضغط نفسي كبير جداً لا أطيقه.
الآن هي مستمرة بتصرفاتها، وقد طلبت الطلاق مراراً وتكراراً، وقد امتنعت عن ذلك مخافة أن تتعرّض للفتنة، وكذلك لأتمكن من منعها إذا حاولت أن تسبِّب لي مشاكل إضافية.
ماذا أفعل ؟ أرشدوني جزاكم الله خيراً، وهل عليَّ إثم في هجرها ؟ وهل تنصحوني بطلاقها ؟ أم نبقى على هذه الحال ؟ وجزاكم الله خيراً.
الرد على الاستشارة:
- المستشار: رامي ملحم
الأخ الكريم، السَّلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ولقد أطلتُ القراءة في رسالتك، واهتممت أن أعيد قراءتها مراراً، وذلك حرصاً أن يكون الجواب على استشارتكم عن فهمٍ واستيعاب للسؤال، مع أنَّك استعرضت مشكلتك وبكل تفصيل وتوضيح.
والحقّ أنّ لك موقفين يستحقان الثناء والتقدير؛ أولهما: زواجك للحفاظ على دين مسلمة، ومقرّر لدينا كما ثبت في الصَّحيح من حديث عمر رضي الله عنه: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات وأنَّ لك امرئ ما نوى))، وأدعو الله تعالى أن يقبل زواجك طاعة وقربة. وأمَّا الموقف الثاني: فهو زواجك من ثيّب مع إمكانية الزَّواج من بكر، وفي هذا خلق نبيل وحفاظاً على مشاعر الزوجة، وهذا ما أقرّه خير الخلق سيّدنا محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام في حديث عبد الله بن جابر رضي الله عنهما.
وهذان الموقفان وما ورد في ثنايا رسالتك وما يستنتج من كتابتك، فيبدو لي أنّ لك شخصية تتصف بتعظيم قيم التسامح والعطاء والتضحية وصاحب اتجاهات إنسانيّة عميقة. ويظهر لي أنَّك تتخذ قراراتك مغلباً المصالح الشرعية الراجحة عندك حتى لو كان ذلك على حساب مصالحك الذاتية.
ونصيحتي إليك تتمثل في تأكيد فهم ووضوح النقاط الآتية:
1. يظهر أنَّ بقاء عقد الزواج بينك وبين زوجتك يحفظ عدم المساس بحياتها وأمنها من جهة أهلها.
2. يبدو أنَّ الأثر السلبي عليك وعلى أسرتك والمترتب على إبقاء زواجكما لا يعدو أثراً معنوياً من جهة إساءة زوجتك للأدب وتطاولها عليك وعلى زوجتك الثانية.
3. أقدّر أنَّك حين فصلت أبناءك عن زوجتك، فهذا يدعم أن لا يتأثر أبناؤك بالجانب السلبي لدى والدتهم.
4. أظنّ أنَّ أبناءك قريباً إن شاء الله يصبحون بالغين وراشدين، وهم سيتحمّلون جزءاً من المسؤولية تجاه والدتهم، وهذا سيساعدك ويخفِّف عنك.
5. إنَّ أيَّ تصرّف سلبي تجاه الزَّوجة قد يكون له أثر سلبي على علاقتك بأبنائك؛ إذ قد يفسّرون تصرّفك على أنَّك لم آذيت والدتهم ولم تتحمل مرضها. حتَّى لو لم يبدُ هذا متوقعاً في الحاضر لتجدنّ ذلك في المستقبل.
6. إنَّ زوجتك كما تمّ تشخيصها تعاني من أمراض نفسية متعدّدة، فهي تصدر سلوكات وتصرّفات ناتجة عن مرضها. وهذه التصرّفات خارجة عن إرادتها، ومن ذلك امتناعها عن تناول الأدوية اللاَّزمة.
7. تتفهم زوجتك الثَّانية وضعك مع زوجتك الأولى ونظرتك للعلاقة معها. وهذا يدعم تمكينك من دوام الإحسان إليها.
وملخص الحديث أيّها الأخ الكريم، إن كان لا يوجد غير الأثر المعنوي السلبي عليك من إبقاء زواجكما، فأنصحك بعدم طلاق زوجتك والترفق معها، والتعامل معها بروحك الرّسالية العالية، وأدعو الله أن ينالك عظيم الأجر للإسهام في حفظ دين مسلمة، وفي ذلك تفويت لمفسدة متوقعة من فساد علاقتك بأبنائك مستقبلاً.
وأدعوك أن تبذل مع أبنائك جهدك؛ بدوام الحرص على معالجتها، والتودد لها، ونصيحتها بالقيام بواجباتها الدينية المختلفة، ويمكن الاستعانة بصديقة لزوجتك أو إحدى الفاضلات المؤثرات من حولها.
بورك جهدك، ووفقك الله لحسن طاعته، وأدعوك أخي إن شعرت أنَّك بحاجة لمزيد حوار حول مشكلتك أن لا تتردد بإعادة السُّؤال، وعلى الرَّحب والسّعة دوماً.
- المستشارة: هدى نجم
أخي السائل، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لقد عرضت مشكلتك بكلِّ صراحة رغم معاناتك، أقدِّر معاناتك وصبرك ومحاولاتك لمساعدة زوجتك.
مشكلتك مع زوجتك لها جانبان:
- الجانب الأوَّل المتعلق بصحتها النفسية، فكما فهمت منك أنَّ الأعراض التي لدى زوجتك هي كما شخّصتها الطبيبة النفسية (مرض الوسواس القهري مع أعراض فصام) وما تظهره من تصرفات تتعلق بالحمَّام والوضوء ما هي إلاَّ جزء من أعراض الحالة المرضية تندرج تحت أحد أنواعه وهو"النظافة" كما أنَّ لديها وسواسَ "الشك" تظهر حول الزوجة الثانية، يجدر أن أوضح لك أنَّ الأشخاص الذين يعانون من هذا المرض لا يستطيعون التحكم بأنفسهم أحياناً، لذا فلا يجوز أن نلومهم ولا نحاكمهم كما نحاكم الآخرين، لأنَّهم يقعون تحت وطأة المرض، فهي تعاني وتتعذب أكثر ممَّا تتخيَّل أنت. وقد تلقت زوجتك العلاج بالصدمات الكهربائية والعلاج الدَّوائي، ولكن طبيعة هذه الحالة أنَّها تمر بفترات من التحسن وبعدها نكسات ثانية، لقد أظهرت الدلائل الطبية أنَّ العلاج النفسي (الجلسات النفسية) الموازية للعلاج الدوائي تعطي فائدة أكثر وتقلل من النكسات، وهو ما يعرف بالعلاج المتعدّد الأوجه (جسدي- نفسي – اجتماعي)، لذا أعتقد أنَّه إذا توفر في مكان إقامتكم أحد العيادات أو المراكز الصحية التي توفر هذا العلاج فسوف يساعد زوجتك وأسرتك في كثير من الأمور. كما يفضل عدم تعريض زوجتك الى ضغوط نفسية مهما كانت بسيطة، أو إحداث تغيير مفاجيء في مكان السكن أو الظروف المعيشية، لأنَّ ذلك سيسبِّب لها بانتكاسة، وتحتاج إلى من يعيش معها ويراقب حالتها واستمرارها بتناول الدَّواء لأنَّه شيء أساس، وبعد التحاقها بجلسات علاج نفسي وبتوجيه من المختص النفسي يفيدها الاشتراك ببعض الأنشطة الاجتماعية البسيطة المناسبة لها ولظروف الأسرة ضمن مجموعات العلاج ثم فيما بعد خارجها.هي لن ترجع كما كانت قبل المرض، ولكن بإذن الله ستتحسن وتصبح أكثر قدرة على الاستقلالية والانتاجية والتكيّف ضمن مجتمعها.
- الجانب الثاني هو ما يتعلّق بموقفك الشرعي تجاهها فأنت هاجر لها ومتزوّج عليها، ولكنَّك تقوم على تأمين حاجاتها المعيشية، وشعرت من كلامك أنَّك غير مرتاح وتعبت من رعايتها وتحمّل الأعراض التي لديها وكلامها. إذا كان ذلك مدعاة لأن تظلمها غصباً عنك، فلابد أن تجد الحل الشرعي، ولكن عليك قبل أيّ شيء أن تؤمّن لها رعاية ومراقبة من قبل أحد الأقارب أو الأولاد، إذا كانوا قد وصلوا سنّاً يتحمَّلون به المسؤولية، ولا أجد الطلاق حلاًّ، بل ربَّما أنه سيعرضها لصدمة تزيد من حالتها. إنَّ وجودك في حياتها حجر أساس وركيزة، وتحمّلك المشقة أمر يجزيك الله خير الجزاء عليه في الدُّنيا والآخرة خاصة أنَّك متزوّج من أخرى، وهي متعاونة، فاصبر واحتسب. أعانك الله لما يحب ويرضى