كان له الدور الأبرز في إعادة الوجه الإسلامي إلى تركيا، بل ونجح خلال العقود الثلاثة الأخيرة في تربية جيل من السياسيين ورجال الدولة الذين يقودون الآن الجمهورية التركية وفق منهج يجمع بين الأصالة الإسلامية والحداثة.
وبعد أن قضى سنوات عمره في تحطيم جبل العلمانية الذي جشم على صدر تركيا آخر معاقل الخلافة الإسلامية، وكان بذلك أول من نجح في إعادة تركيا إلى حضن العالم الإسلامي .. إنَّه نجم الدين أربكان الذي وافته المنية الإثنين 27-2-2011 عن عمر يناهز 85 عاماً.
المولد والنشأة والتعليم ...
هو من نسل الأمراء السلاجقة الذين عُرفوا في تاريخ تركيا باسم "بني أغوللري"، وكان جده آخر وزراء ماليتهم، بينما كانت أسرة أربكان تلقب بـ "ناظر زاده"، أي ابن الوزير .
ولد نجم الدين أربكان (Necmettin Erbakan) في 29 أكتوبر (تشرين الثاني) لعام 1926م في مدينة "سينوب" على ساحل البحر الأسود.
نشأ أربكان في كنف الطريقة النقشبندية برعاية شيخها محمد زاهد كوتكو، أنهى دراسته الثانوية سنة 1943م ، ثم تخرَّج في كلية الهندسة الميكانيكية باستانبول سنة 1948م، وكان الأوَّل على دفعته اشتغل معيداً في نفس الكلية أرسلته جامعته في بعثة علمية إلى جامعة "آخن" الألمانية وقد ابتكر عدة ابتكارات وهو يدرس في ألمانيا لتطوير محركات الدبابات
عاد إلى إسطنبول وأصبح "بروفيسور"، وهو لم يتجاوز التاسعة والعشرين.
النشاط السياسي ..
بدأ أربكان حياته السياسية بعد تخرّجه من كلية الهندسة، وأصبح رئيسا لاتحاد النقابات التجارية ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قوينة، لكنه منع من المشاركة في الحكومات المختلفة بسبب نشاطه المعادي للعلمانية، وكان تأسيس حزبه أول اختراق جدي لرفض القوى العلمانية المهيمنة له.
خاض انتخابات مجلس النواب في مدينة "قونيه" سنة 1969م، ففاز باكتساح.
أسَّس أوَّل حزب إسلامي في تركيا وسمَّاه: "حزب النظام الوطني" سنة 1970م , ثم صدر حكم بحله ، فعاد سنة 1972 ليؤسس حزب جديد سماه "حزب السَّلامة الوطني"، وأنشأ مجلة لهذا الحزب باسم "مللي غازيته".
في عام 1973م، صدر حكم بالعفو عنه وعاد لمزاولة نشاطه السياسي ممَّا أهَّله لقيادة حزب "السلامة الوطني".
اندمج حزبه "السلامة الوطني" مع حزب "الشعب الجمهوري".. وتولَّى منصب نائب رئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة (بولند أجاويد) في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في العام نفسه.
أسَّس حزب الرَّفاه الإسلامي ودخل الانتخابات البرلمانية عام 1996م، حيث حصل على 185 مقعداً ليصبح أكبر حزب في تركيا، ليترأس أربكان حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة (تانسو تشيللر).
خلال وجوده في حكومة أجاويد، حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، وحاول ضرب بعض من أخطر مراكز النفوذ الداعمة للنهج العلماني، فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعاد لإسرائيل، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان بسبب ما اعتبر سياسته المؤيّدة للكيان الصهيوني.
قام الجنرالات بانقلاب ضده لكن من نوع جديد ، إذ قدموا إلى أربكان مجموعة طلبات لغرض تنفيذها على الفور تتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسيا كان أم تعليميا أم متعلقا بالعبادات، فكان أن اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي.
في عام 1998 تم حظر حزب الرَّفاه وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام 2000.
ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في عام 2003 حزب السعادة، لكنَّ خصومه من العلمانيين، تربصوا به ليجري اعتقاله، وحكم عليه بسنتين سجناً، وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عاماً.
الثبات على الطريق ...
إنَّ نجم الدين أربكان منذ أن دخل الميدان السياسي عام 1969م، وهو يسير على طريق مجاهدين سبقوه من أجل إعادة تركيا إلى حضن دينها، ولاقوا في سبيل ذلك الأهوال؛ فقد أعدم أتاتورك الشيخ سعيد بيران وعدداً كبيراً من أتباعه، ونفى أعداداً أخرى إلى خارج البلاد؛ لمجرد مناداتهم بعودة الخلافة الإسلامية.
لكن حركة الشيخ سعيد لم تمت، بل ازدادت قوة بظهور أحد تلامذته وهو العلامة الكبير بديع الزمان سعيد النورسي، الذي أعلن بوضوح رفضه لمبادئ العلمانية التي أتى بها أتاتورك، فتم نفْيَه إلى مدينة بوردو النائية، ثم إلى مدينة أورفة، وظل في المنفى 35 عاماً متصلة (من 1925م - 1960م).
وتولى عدنان مندريس بعد فوز حزبه بالانتخابات العامة رئاسةَ الحكومة عام 1950م ولمدة عشر سنوات، ولما بدت ميوله الإسلامية واضحة انقلب الجيش عليه انقلاباً دموياً؛ حيث تم إعدام مندريس عام 1960م وجلال بايار مؤسس الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه عدنان مندريس.
فلسطين والأمة الإسلامية ..
تزعم أربكان تيَّار الإسلام السياسي في تركيا وخلال أقل من عام قضاه رئيسا للحكومة سعى للانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، ولم يكتف أربكان بذلك، بل نشط عبر العالم الإسلامي، وحدَّد موعداً لمؤتمر عالمي يضمّ قيادات العمل الإسلامي، وباتت تركيا تتدخل بثقلها لحل مشكلات داخلية في دول إسلامية كما حدث حينما أرسل وفوداً لحلِّ خلافات المجاهدين في أفغانستان.
وفي أغسطس عام 1980م، قدَّم نجم الدين أربكان مشروع قانون إلى مجلس النواب التركي يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني.
وذات مرة أصرَّ على أن تصدر الحكومة التركية احتجاجاً رسمياً ضد إقدام (إسرائيل) على إعلان ضم القدس العربية إلى الكيان الصهيوني وإعلانها عاصمة ل(إسرائيل).
كما كان من جهود أربكان لدعم القضية الفلسطينية أن قدَّم اقتراحاً بحجب الثقة عن وزير الخارجية التركي آنذاك خير الدين أركمان بسبب سياسته المؤيِّدة للكيان الصهيوني، والمعادية للعرب، وقد نجح أربكان وحزبه في طرد أركمان من وزارة الخارجية التركية.
كان يؤمن بأنَّ فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، و لا للعرب وحدهم، وإنَّما للمسلمين جميعاً".
وفي عام 1980م قاد مظاهرة ضمَّت أكثر من نصف مليون تركي بمناسبة "يوم القدس العالمي" هتفت بشعارات معادية للكيان الصهيوني، وبعدها بيوم واحد قام انقلاب عسكري ممَّا أدَّى إلى سجنه هو وعدد من رجاله.