ونحاول في (نبض الإيمان) أن نربط بين العقيدة الإسلامية والثورات العربية، مستهدفين فهم تأثير بعض مفاهيم العقيدة في مواقف وتحرّكات الثائرين، ومن أبرزها هذه المفاهيم والمعاني : الثقة بالله وبما عنده سبحانه وتعالى..
إنَّ الثقة بما عند الله تعدُّ ثمرة من ثمار معرفته تعالى؛ فالعبد إذا عرف ربَّه حقَّ المعرفة وثق به ثقة مطلقة تسكن بها نفسه ويطمئن إليها قلبه، ويحصّل السعادة في الدنيا والآخرة.
وممَّا رأيناه في متابعتنا للثورات العربية عموماً تلك الثقة اللامتناهية بربِّ العالمين التي بدت في تحرّكات الشباب وإصرارهم على تنفيذ مطالبهم، والتي بدت لنا شبه مستحيلة، لكن مع الأيام وإصرار المحتجين على تنفيذ المطالب كما هي غير منقوصة تغيَّرت قناعتنا وبتنا نؤمن معهم أنَّ التغيير قادم لا محالة.
الثقة بما عند الله تعالى تعني الإيمان المطلق بالله تعالى، وأنَّه الخالق الرزَّاق الوهَّاب القدير القوي العزيز الحكيم، وأنَّه سبحانه وتعالى صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلى، فالمؤمن لأجل ذلك يتوكل عليه، ويرضى بما قسم له، ويحمد ربَّه على كل حال.
ويثق المسلم بربِّه لأنَّه كلَّما زادت ثقته بما عند الله زاد أجره، وارتفع رصيده من الحسنات، ولأنَّه سبحانه هو الملاذ في الملمات وفي كشف الكربات وفي مواجهة الأزمات.
صور الثقة بما عند الله:
وللثقة بما عند الله صور تظهر في سلوك المؤمن؛ ومن هذه الصور:
1- الثقة بشمول علمه، وكمال حكمته وسعة رحمته، وعموم قدرته، وأنَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل أبرّ بهم من أنفسهم، وأعلم بمصالحهم من ذواتهم، وما يظنه العبد خيراً قد يكون شرّاً، وما يحسبه خيراً قد يكون في ذاته محض الشر، قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }.[ البقرة-216].
ومن هنا، فإنَّ ما ظنناه تهلكة وقع فيها الشباب إذا به طريق النَّصر وعنوان التغيير وسبيل اقتلاع الطغاة.
2- الثقة بوعده تعالى وأنَّه ولي الذين آمنوا، والمدافع عنهم، وهو الذي ينجيهم من عدّوهم، وينصرهم عليه، وأنَّه لا يخلف الميعاد، وأنه يملي للظالمين ثمّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنَّه للفراعنة والطغاة بالمرصاد، قال تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}،[ القلم:44-45]، وقال سبحانه وتعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}.[ الحج: 38].
لقد تردَّد قوم طالوت في قتال جالوت وجنوده فقال لهم طالوت: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنَّكم غالبون}.
لقد رأينا ثقة نادرة بنصر الله من خلال إقبال الشباب على التضحية في ميادين التحرير والتغيير، وما أظن هذه الإرادة الفولاذية إلاَّ نتاج ذلك الإيمان الذي أشرق في قلوب هؤلاء الشباب فأثمر همة تتوقد وعزما لا ينفد.
3- الثقة بما تكفل الله تعالى به من الرزق لخلقه، قال تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}[ الذاريات:58]، ثمّ أكّد الوعد والضمان، قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلاَّ على الله رزقها}[ هود: 6]، ثمّ أكد هذا الضمان بالقسم، قال تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما إنكم تنطقون}.[ الذاريات: 22-23].
من مشاهد الثقة بما عند الله تعالى في القرآن الكريم وفي الواقع:
1- تحكي سورة القصص حكاية أم موسى، وكيف خافت على ولدها الرَّضيع من بطش فرعون وتآمره على بني إٍسرائيل، ثمّ تراها قد اطمأنت لأمر الله تعالى الذي يخالف هواها ويعاكس فطرتها، قال تعالى: {فإذا خفت عليه فألقيه في اليّم ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7 ]. فكان لها ما أرادت، ورد الله تعالى عليها طفلها كثمرة من ثمار ثقتها بما عند الله.
2- تحكي سورة يوسف حكاية يعقوب عليه السلام، وكيف أنه واثق بما عند الله تعالى، فرّد الله تعالى له يوسف وأخاه بعد حين من الزمن، قال تعالى: {قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم}.[ يوسف:83].
3- ويشبه ذلك مواقف الثورة في اللحظات الحرجة عندما كانت تقدم التنازلات من قبل الطغاة، ويأتي الرد بالإصرار على تنفيذ المطالب بالرحيل أو سقوط النظام، كل ذلك ثقة بنصر الله وتوفيقه، وأنه لن يخذل من توكل عليه، علما أنهم كانوا ولا زالوا مجردين من كل سلاح إلا سلاح الإيمان.
ثمرات الثقة بما عند الله تعالى:
إنَّ للثقة بما عند الله تعالى ثماراً عديدة تتجلَّى في حياة المؤمنين في معانٍ عدَّة أبرزها:
1- راحة النفس وطمأنينة القلب، وذلك أنَّ الذي يثق بما عند الله تعالى يكثر من ذكره سبحانه وتعالى ويتعلّق به حبّاً وطاعة، ومن فعل ذلك حصلت له الطمأنينة، قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[ الرعد: 28].
لقد كان ذكر الله تعالى من أعظم المثبتات التي ثبتت الشباب في لحظات الفتنة وهجوم البلطجية، لقد سمعنا صيحات التكبير والتهليل في مختلف مفاصل المواجهة مع فلول الأنظمة البائدة، ممَّا يدل فعلاً على اطمئنان القلوب بذكر الله، وأثر هذا الاطمئنان في الصمود.
2- حصول الأمن والاستقرار وعدم الخوف، ذلك أن المؤمن يعلم أن الله تعالى معه، وأن الأمّة لو اجتمعت على أن يضروه لم يضروه إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليه، وقد بيّن الله تعالى أنَّ الأمن لا يكون إلاَّ للمؤمن، قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولـئك لهم الأمن وهم مهتدون}.[الأنعام:82]. فالطغاة يظنون أنَّهم بإرهابهم للمحتجين سيجعلونهم يتفرقون، إنهم يجهلون ذلك الأمان الذي يستشعره المؤمنون المعتصمون بحبل الله المتين.
3- فتح باب الرِّزق والخير وإجابة الدُّعاء، ذلك أنَّ الواثق بما عند الله تعالى قريب من ربّه متوكل عليه، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}[ الطلاق: 3]. وهذا يعني أنَّه سبحانه وتعالى كافيه وشافيه ورازقه ومعطيه، وقد رأينا هذه الثمرة في أنَّ الكثيرين كانوا يضحون بوظائفهم لخدمة الثورة وأهدافها غير آبهين بما ينتظرهم من حرمان من الوظيفة عقوبة على تفاعلهم مع الثورة، لم يأبه مئات الآلاف في مصر واليمن وتونس بتهديدات أعوان النّظام بالقصاص منهم متوكلين على الله تعالى، وواثقين بأنَّ رزقهم عند الله مكفول لا تنتقصه القرارات ولا تمنعه الاقصاءات.
4- فتح باب القبول والمحبَّة عند الناس، ذلك أنَّ الواثق بما عند الله تعالى لا يحسد الناس، ولا ينافسهم في أمور دنياهم، لأنَّه يعلم أنَّ ما عند الله خير ممَّا في أيـدي الناس، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنِ الْتَمَسَ رضى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ الِلَّهِ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ)).[رواه ابن حبَّان بإسناد حسن].
ومن هنا كانت الأخلاق العالية، والتفاني في خدمة النَّاس من أكثر الأسباب التي جمعت الآخرين حول الشباب الثائر، فقد وضع الله تعالى لهم القبول في الأرض حتَّى جاء المدح للشباب في ساحة التغيير في القاهرة على لسان كثير من القادة الغربيين.
وعكس ذلك، فالإنسان المغرور والمتكبر يثق بنفسه وبقوته وعلمه وماله فلا يجلب على نفسه إلاَّ الخسارة والهلاك، ذلك أنَّه استمد ثقته من أمور زائلة، ولم يثق بربِّه العظيم، ومن هؤلاء قارون، وقد سئل عن ماله، فقال: إنَّما أوتيته على علم عندي، فكان عاقبته الهلاك، قال تعالى: {فخسفنا به وبداره الأرض}، وهكذا كان حال الفراعنة الجدد؛ حيث كانت نهايتهم مخزية، وهم ملاحقون تلعنهم الملائكة والنَّاس أجمعون.