لا تفتأ الأنظمة المهترئة أن تحيط نفسها بسياج من الأمن تظن أنَّه يعصمها من الوصول إليها أو النَّيل منها، ولكنَّها بعد فترة من الزَّمن طالت أم قصرت يظهر لها عظيم خطئها، وإذا بحق الشعوب يقذف باطل هذه الأنظمة، فإذا هي زاهقة.
تتلفت الأنظمة الواهية عن يمينها وشمالها، تبحث عن قلاعها التي شيّدتها، وعن جنودها التي آزرتها، فإذا قلاعها شُيِّدت على بحار من الرِّمال، وإذا جنودها كانت ضربًا من خيال، ولم يبق لهم في النِّهاية غير الشعوب التي أذاقوها أصنافًا من الوبال.
أشواك الظلم ..
لم يطلب أهل مصر من مبارك ونظامه سوى أن يسيروا فيهم بالعدل، وأن يسوسوهم بالحق، وهذا هو مطلب كلّ شعب، وأمل كلّ رعية، يقول عبد الرَّحمن الشيزري (رحمه الله) في كتابه ((المنهج المسلوك في سياسة الملوك)): (الرَّعية تستظمىء إلى عدل الملك وتدبيره استظماء أهل الجدب إلى الغيث الوابل، وينتعشون بطلعته عليهم كانتعاش النّبت بما يناله من ذلك القطر، بل الرّعية بالملك أعظم انتفاعًا منها بالغيث، لأنَّ للغيث وقتًا معلومًا، وسياسة الملك دائمة لا حد لها ولا وقت).
ولكنَّ مبارك ونظامه لم يفهموا ذلك، وظنوا أنَّهم ملكوا العباد والبلاد، فغدوا مثل شجرة شوك امتدت فروعها لتصيب النَّاس في كلِّ شبر من أرض مصر، وعبثًا حاول أصحابها تجميل أشواكهم بأوراق خضراء، إلاَّ أنَّها كانت يابسة لم تلبث أن جفَّت وتساقطت لتكشف كلّ الذين يستترون خلفها، وتفضح أفعال المجرمين من الظلم والبغي والفساد وإذلال الخلق، حتى تصل إلى قمَّة إجرامها في الحبس والتعذيب والنفي والقتل في نهاية المطاف، ولا يعلمون أنْ ليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والجور والبغي؛ لأنَّه ليس يقف على حدّ ولا ينتهي إلى غاية.
قيل لأردشير: من الذي لا يخاف أحدًا؟ فقال: من عدل في حكمه، وكفَّ عن ظلمه، نصره الحق، وأطاعه الخلق، وصفت له النعمة، وأقبلت عليه الدنيا، فَهَنِئَ بالعيش، واستغنى عن الجيش، وملك القلوب، وأمن الحروب.
ويُروى أنَّ يزدجرد -آخر ملوك فارس- بعث رسولاً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأمره أن ينظر في شمائله، فلما دخل المدينة، قال: أين ملككم؟ قالوا: ليس لنا ملك، وإنما أمير خرج. فخرج الرجل في أثره، فوجده نائمًا في الشمس، ودرته تحت رأسه قد عرق جبينه حتى ابتلت منه الأرض، فلما رآه على حالته، قال: عدلت فأمنت فنمت، وصاحبنا جار فخاف فسهر، أشهد أنَّ الدِّين دينكم.
سَلِ الطغاة العشرة يخبروك ..
إنَّ التاريخ شاهد عدل وراوي صدق، فعلى مدار (30) عامًا عايش الرَّئيس مبارك -المخلوع بالأمس القريب– عشرة من الرؤساء المخلوعين قبله، لكنَّه لم يحدث نفسه لماذا خُلعوا وطُردوا؟ وظل يردد مع حاشيته وبطانته ويصدق نفسه: إنَّ مصر حالة مختلفة، ولها أوضاع خاصة، ولكن الطوفان -يا عزيزي- حينما ينطلق لا يفرق بين مكان وآخر، ولن تنفع معه سدود من حاشية ونظام، أو قصور أو حراس؛ لأنَّ هؤلاء أمام طوفان الشعوب يتحوَّلون إلى ورق لا يقوى على الوقوف في وجه الطوفان، وسَلِ الذين من قبلك يخبروك.
في 16 كانون الثاني/ يناير 1979م، فرَّ شاه إيران من بلاده متوجهًا إلى مصر إثر انتفاضات شعبية ضخمة، بعد أن حكم بلاده (39) سنة، من 1941 إلى 1979، وقد استضافه الرئيس أنور السَّادات حتى مماته في (27) من تموز/يوليو عام 1980م.
وفي نيسان/ أبريل 1979م، طرد المتمردون الأوغنديون الرئيس الأوغندي عيدي أمين دادا، الذي شهدت سنوات حكمه الثمانية عمليات قتل جماعية وإبادة قبائل معارضة له، بل إنَّه أنشأ فرق إعدام جعلت نظامه واحدًا من أعنف الأنظمة في تاريخ القارة السوداء، ما اضطره إلى مغادرة البلاد والهرب إلى ليبيا التي ما لبث أن طُرد منها في أواخر العام 1979م، ثم توجه إلى جدة بالمملكة العربية السعودية فأقام بها حتى مات في (16) من آب/أغسطس عام 2003م.
وفي نيسان/ أبريل 1985م، انتفض شعب السودان ضد الرئيس جعفر نميري، فتدخل وزير الدفاع عبد الرحَّمن سوار الذهب وسيطر على الحكم مدَّة سنة، وسلَّمه بعد ذلك لقادة مدنيين -وكان بذلك أول عسكري في المنطقة يقود انقلابًا ويسلم الحكم للمدنيين المنتخبين مثلما وعد- أمَّا الرئيس جعفر نميري فقد لجأ سياسيًا إلى مصر قادمًا إليها من الولايات المتحدة ومكث فيها حتى عام 2000م، ثم عاد إلى السودان في العام نفسه، ومكث بها حتى وافته المنية في 30 من آذار/ مارس 2009م.
وفي (17) من كانون الأول/ ديسمبر1989م، قامت حركة ثورية عنيفة في رومانيا، شملت أرجاء البلاد، كانت تهدف إلى الإطاحة بنظام الدكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته، إلاَّ أنَّ قوات الأمن أطلقت النَّار على عشرات الآلاف من المتظاهرين، فأردت أكثر من ألف قتيل، ففر تشاوشيسكو هو وزوجته على متن مروحية، إلاَّ أنَّهما ما لبثا أن اعتُقلا في داسيا قرب تبرغوفيست (شمال بوخارست)، وحكم عليهما بالإعدام في (25) من كانون الأول/ ديسمبر1989م.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2000م، تمت الإطاحة بدكتاتور يوغوسلافيا سلوبودان ميلوسيفيتش إثر انتفاضة شعبية في بلغراد، فتم اعتقاله ووضعه في الإقامة الجبرية، قبل أن يسلّم إلى محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السَّابقة في لاهاي حيث تُوفي في آذار/ مارس 2006م في زنزانته.
وفي آب/ أغسطس 2003م، فرَّ الرئيس الليبيري تشارلز تايلور إلى نيجيريا بعد حرب أهلية استمرت (14) عامًا وحصدت (270) ألف قتيل، وفي 2006م اعتقل في نيجيريا وطرد إلى ليبيريا، ومن ثم إلى فريتاون ثم نقل إلى لاهاي، حيث باشرت المحكمة الدولية الخاصة بسيراليون محاكمته.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2003م، استقال الرئيس البوليفي غونزاليس سانشيز دو لوزادا إثر حركة احتجاج شعبية قوية ضد سياسته الليبرالية، واضطر إلى مغادرة القصر الرئاسي تحت جنح الليل على متن مروحية متجها إلى الولايات المتحدة.
وفي (29) من شباط/ فبراير 2004م، استقال رئيس هايتي جان برتران اريستيد، بعد شهر من اندلاع ثورة مسلحة حصدت حوالي مئة قتيل ومئة جريح، وغادر بلاده تحت ضغط الشارع والمجتمع الدولي إلى منفاه في جنوب إفريقيا.
وفي (24) من آذار/ مارس 2005م، انهار نظام رئيس قرغيزستان عسكر أكاييف في غضون بضع ساعات، تحت ضغط آلاف المتظاهرين الذين كانوا يحتجون على نتائج الانتخابات وفساد السلطة، وحاولت قواته قمع الانتفاضة الشعبية العارمة، لكنَّها لم تنجح بعد أن حصدت (87) قتيلاً، مما اضطره إلى الفرار من البلاد إلى روسيا التي منحته حق اللجوء.
وفي (14) من كانون الثاني/ يناير 2011م رحل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي عن السلطة مضطرًا بعد ثورة شعبية عارمة انطلقت من سوسة مسقط رأسه إلى جميع أنحاء البلاد، وسبب الثورة لم يكن خافيًا على أحد؛ إنَّه الظلم الذي تعرض له الشاب محمد البوعزيزي بعد أن صادروا عربته التي يقتات منها، وقيام شرطية بصفعه أمام الملأ، فقام يوم الجمعة (17) من كانون الأول/ ديسمبر عام 2010م بإحراق نفسه تعبيرًا عن غضبه على بطالته، فانطلقت الثورة يوم السبت (18) من كانون الأول/ ديسمبر 2010م، واستشهد مئات الشهداء، واضطر زين الراحلين إلى الهروب إلى جدة بالمملكة العربية السعودية، بعد أن ظلت طائرته محلقة في الجو تستنجد الدول التي كان يخدمها، ولكنَّها أعرضت عنه وهو في أمسّ الحاجة إليهم.
القاسم المشترك في قصص الرؤساء العشرة السَّابقين -المخلوعين والمطرودين– هو قيام ثورات شعبية عارمة ضدهم، ولو أنَّ الرؤساء فكَّروا قليلاً لعلموا سبب خلعهم وطردهم فاجتنبوه، ولكن: قد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكنْ لا حياةَ لمن تُنادي
سؤال يبحث عن إجابة ..
إنَّ السُّؤال الذي ينبغي أن يبحث عن إجابته كلُّ الطغاة من الحكام هو: لماذا ثارت الشعوب على حكامها؟ ولأنَّني أخشى أن يطول عليهم البحث، فلا يدركوا الإجابة إلاَّ بعد فوات الأوان، فإنني أتطوَّع للإجابة عنهم علَّهم يدركون أنفسهم وشعوبهم قبل الطوفان: (إنَّ أيدي الرعية تبع لألسنتها فمتى قَدَرَتْ أن تقول قَدَرَتْ أن تصول، ولن يملك المَلِكُ ألسنتها حتى يملك جسومها، ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبّه، ولن تحبّه حتَّى يعدل عليها عدلاً يتساوى فيه الخاصة والعامة)، هكذا قال الحكماء من قبل لعلَّكم تفهمون!
أعجبني أفلاطون عندما قال: مَنْ قام من الملوك بالعدل والحق ملك سرائر رعاياه، ومن قام فيهم بالجور والقهر لم يملك إلاَّ الأجساد، ولم ير إلاَّ المتصنع والقلوب عليه مختلفة، فإنَّ السرائر تطلب من يملكها بالإحسان.
فمتى يعتبر الحكَّام ويصلحوا ما بينهم وبين شعوبهم وينصفوا الناس من أنفسهم، ويعتبروا بما حدث لأكبر زعيمين عربيين أخذًا بعوامل الأمن والحيطة والحذر؟
يقول الشاعر:
من أنصفَ الناسَ ولم ينتَصِف بفضلهِ منهُم فـذاك الأميـر
ومن يـُرِد إنصَافهـم مِثلمَـا أنصفَ أضحَى ما لهُ من نظيرِ
ومن يُرِد إنصَافـه وهـو لا ينصفهُم فهو الدَّنيءُ الحقيرُ
أمَّا الذين لا زالوا يعتقدون أنَّ شعوبهم (مغفلة)، فهم واهمون، واسألوا الشعب التونسي والمصري يخبروكم، فهذان الشعبان أثبتا للعالم أجمع وليس للشعوب المقهورة فحسب، أنَّ الحلول ليست صعبة، ولكنَّها فقط تحتاج إلى التضحية.