الإيمان بالغيب .. من صفات المتقين

الرئيسية » بصائر التوحيد » الإيمان بالغيب .. من صفات المتقين
alt
ورد أنَّ عمر بن الخطَّاب  رضي الله عنه سأل أبيّ بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمَّرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى..
التقوى.. تلك الكلمة التي تحمل كلَّ معاني الخشية المستمرة والحذر الدائم، والتوقّي من أشواك طريق الحياة، كالرَّغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممَّن لا يملك نفعاً ولا ضراً، وعشرات غيرها من الأشواك.. كما يقول سيّد في ظلاله.

فالمتقون عبر التاريخ هم الخلَّص من هذه الأمَّة، هم القادة والحكماء والدعاة والمصلحون، هم الأوائل المبادرون في العمل والدَّعوة والتضحية، ولهؤلاء صفات كثيرة مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن هناك صفة تميّزهم عن غيرهم وترفع شأنهم عن أقرانهم، ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة التي يقول فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((عليكم بسورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة))، [صحيح ابن حبَّان].

وهي الصفة الأولى من صفات المتقين؛ صفة السَّابقين من المؤمنين في المدينة، كما أنَّها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين، قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، [البقرة:2-3].
إنَّها صفة الإيمان بالغيب.. فالغيبيات هي الأمور التي استأثر الله تعالى بها، واختص بها نفسه جل وعلا، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، وهو يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء، وبذلك جاءت الآيات والأحاديث، قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}، [هود:123].

وقال تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}، [يونس:20]، ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، [الأنعام:59]، ثم يأتي تفسيرها في سورة لقمان، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، [لقمان:34].
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: (هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلاَّ بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علم الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها...).

إنَّ الإيمان بالغيب لأهميته ومكانته في الإسلام، يدخل فيه جميع أركان الإيمان؛ لأنَّ الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه، هذا كلّه إيمانٌ بالغيب.

وهو من الخصائص المميّزة للإنسان عن غيره من الكائنات، ذلك أنَّ الحيوان يشترك مع الإنسان في إدراك المحسوس، أمَّا الغيب فإنَّ الإنسان وحده المؤهل للإيمان به بخلاف الحيوان، لذا كان الإيمان بالغيب ركيزة أساس من ركائز الإيمان في الشرائع السماوية كلّها، فقد جاءت بكثير من الأمور الغيبية التي لا سبيل للإنسان إلى العلم بها إلاَّ بطريق الوحي الثابت في الكتاب والسنة؛ كالحديث عن الله تعالى وصفاته وأفعاله وعن السماوات السبع وما فيهن، وعن الملائكة والنبيين والجنَّة والنَّار والشياطين والجن وغير ذلك من الحقائق الإيمانية الغيبية التي لا سبيل لإدراكها والعلم بها إلاَّ بالخبر الصَّادق عن الله ورسوله، وكل الأخبار الغيبية التي تأتينا في الكتاب والسنة، سواء كانت ماضية أو مستقبَلة أو موجودة غير مشاهدة ولا معايَنة يجب الإيمان والتصديق بها، والتسليم لها، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.

يقول الشهيد سيّد قطب: (لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة، ولكن جماعة الماديين في هذا الزَّمان، كجماعة الماديين في كلِّ زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمُّون هذا ((تقدمية))، وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إيَّاها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: {الذين يؤمنون بالغيب}، والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

نِعْمَ العبدُ .. إنَّه أوَّاب

قال الرَّاغب في مفردات ألفاظ القرآن : (الأوبُ ضربٌ من الرُّجوع، وذلك أنَّ الأوب لا …