عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، قَالَ:
((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ؛ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).[أخرجه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان].
تداعت عليكم الأمم: أي اجتمعوا ودَعا بعضُهم بعضاً.
إنَّ كون المسلمين اليوم مستضعفين في المجالات كافة، مغلوباً على أمرهم في اتخاذ قرارات تخصّ حاضرهم ومستقبلهم، مكبوتاً على قلوبهم وعقولهم في أن ينطلقوا في هذا الكون مصلحين داعين ... أصبح ذلك كلِّه حقيقة لا يمكن إنكارها .
فما السبب الذي أوصل حالهم إلى هذا المستوى ؟ هل المسألة تعود إلى الكم (العدد) أو الكيف ( النوعية) ؟
رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يجيبنا في هذا الحديث الشريف؛ بأنَّ الأمر لا يتعلَّق بالعدد والكثرة، وإنَّما بالكيف والنَّوعية، ويستعمل عليه الصَّلاة والسَّلام مفردة قرآنية، وهي الغثاء ؛ يقول سيّد قطب: (والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة، لا خير فيها، ولا قيمة لها، ولا رابط بينها . . وهؤلاء لمَّا تخلوا عن الخصائص التي كرَّمهم الله بها، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى . . لم يبق فيهم ما يستحق التكريم؛ فإذا هم غثاء كغثاء السَّيل، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام...).
صدقت يا سيّد رحمك الله، وكأنِّي بك تشرح ما يريده رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم من غثائية حلَّت بالأمَّة، فأوصلتها إلى هذه الحال، حتَّى سامها كلِّ مفلس بعد أن كانت قائدة العالم، وأرهبها كلُّ ناعق بعد أن كانت
وهل الغثائية أمر خارج عن دائرة الأمّة الإسلامية، أم هي نابعة من أفرادها ؟
لا شكَّ أنَّ الغثائية تحصيل لما آل إليه حال أفراد الأمَّة الإسلامية، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الرَّحمن بن جُبَير بن نغير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص وفرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدَّرداء جالساً يبكي، فقلت: يا أبا الدَّرداء، ما يُبكيك في يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله، فقال: (ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره بينما هي أمَّة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى).
ما الخلل ؟
يشخِّص رسول الله صلَّى الله الصَّادق الأمين أسباب هذا الخلل والمرض، بأمرين اثنين؛ حبّ الدُّنيا وكراهية الموت . أمَّا حبُّ الدُّنيا : فلأن حبَّها رأس كلّ خطيئة ومفسد للدين، وذلك لأمور كما يقول بعض العلماء : أحدها : أنَّ حبَّها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله .
وثانيها: أنَّه إذا أحبَّها العبد صيَّرها غايته وتوسَّل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة ، فعكس الأمر وقلب الحكمة، فانتكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء.
وأمَّا كراهية الموت: فهو لشدَّة التعلَّق بالدنيا وزخارفها وشهواتها، يقول الإمام أبو حامد الغزالي: (والإكثار من ذكره – أي: الموت- عظيم النفع ولذلك عظَّم الشَّرع ثواب ذكره، إذ به ينقص حبّ الدنيا وتنقطع علاقة القلب عنها وبغض الدنيا رأس كل حسنة كما أن حبها رأس كل خطيئة).
وجاء في الأثر: (لا يستقيم حبُّ الدُّنيا والآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنَّار في إناء واحد).
وورد في الحديث الصَّحيح : ((من كانت الدنيا همّه؛ فرَّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاَّ ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته؛ جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)).
أين الحل ؟
•إنَّ اعتصام هذه الأمَّة بدينها ووحدتها حاجز يقف دون مطامع أعدائها، فمهما كان مكر الأعداء وقوتهم، فإنَّهم لن ينالوا من هذه الأمَّة نيلاً إذا كانت متحدة.
•إنَّ فريضة الجهاد بشتى أنواعه وأشكاله، وتحديث النَّفس به، وتربية الأجيال على حبّه والاستعداد للتضحية بالمال والنَّفس والوقت والجهد في سبيل الله، كفيل بتحقيق التمكين لهذا الدين {ترهبون به عدو الله وعدوكم}.
•إنَّ عقوبة الأمَّة الإسلامية في ترك الجهاد في مفهومه الواسع كانت في الوهن والذل الذي أصابها وتكالب الأعداء الذي حلَّ بها، ومعلوم من فقه التربية الإيمانية أن الله يعاقب على الذنب بالذنب، وهي أقسى صنوف العقوبات.
•إنَّ بُعدَ أفراد الأمَّة عن مظاهر الدنيا الزَّائفة، والسّعي لتحصيل المزيد من بُهرجها وزخارفها، ونجاحهم في تحقيق التكافل الاجتماعي فيما بينهم، يحصِّن الأمَّة الإسلامية من الحاجة إلى الغير، ويحقِّق لهم الاكتفاء الذَّاتي.