(الجميلة، السيّدة، هي، لك، أناقتك، الحسناء، زهرة...، بشرتك، وزنك.. إلخ) عناوين ومسمَّيات برَّاقة نقرؤها ونسمعها ونعايشها كلَّ يوم تظهر بمظهر الحرص على المرأة والنصح لها، وتبطّن الهدف؛ وهو جعلها سلعة أو واجهة براقة جذابة لتحريك الأسواق الرَّاكدة، عناوين لمضامين تركز على الجسد وفورة الدم واللحم، وتنسى الروح ونورها التي إن أوقدت شعت على الجسد والعقل والقلب والقالب.
غريبة هذه المقدّمة في الحديث عن الحجاب، ولكنّي لما أردت أن أكتب بمناسبة اليوم العالمي لنصرة الحجاب في تميّز المرأة، وأحذو حذو كتاب تلك العناوين التي تستقطب القرَّاء لم أجد أميزَ ولا أجمل ولا أرقى منزلة من قوله تعالى:{لستن كأحد من النساء}. ولا أظن أنَّ أيّاً من النّساء لا ترغب بالتفرد أو لا تسعى للتبوّء ، ولكن مهما حاولت النّساء تطبيق نصائح الجمال والرشاقة والأناقة، فستكون هناك دائماً من هي أجمل من الأخريات، أو أكثر رشاقة وأناقة وغيرها من منافسات الدنيا بمقاييس نسبيه تختلف بين البشر، ولكن بمنزلة القرآن فالتفرّد مقرّ من الله سبحانه والأفضلية ثابتة في جواب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأم سلمة عندما سألته: (( يا رسول الله، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور، كفضل الظهارة على البطانة. قلت : يا رسول الله، وبم ذلك ؟ قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله تعالى ألبس الله وجوههن النّور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبداً ونحن الناعمات، فلا نبأس أبداً ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا)).
أمَّا الدليل الإرشادي والخطوات العملية إلى بلوغ تلك المنزلة، فمفصّل في الحصانة التي أرادها الله لنساء المسلمين فبدأ بتطهير الروح بالتقوى: {لستن كأحد من النساء إذا اتقيتن} وتغليف القلب واللسان بغلاف الحياء والعفَّة فلا خضوع بالقول ولا لين في اللفظ ولا تهييج للقلوب المريضة {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} فلا هزل ولا غزل ولا ابتسام ولا سلام ولا موعد فكلام، ولا تبرج {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} وجاء في تفسير (تبرج الجاهلية): وذكرها هنا في موضع الذَّم، والجاهلية مشتقة من الجهل، وقد تنطبق على أي مدَّة من الزمن إذا توافرت خصائصها، (( أنَّ المرأة كانت تمرّ بين الرّجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرط أذنيها، وفي مشيتها تكسر وتغنج وغواية)).
ويلازم التقوى وعفَّة الأخلاق الصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله {وأقمن الصَّلاة وأتين الزكاة وأطعن الله ورسوله}.
فإذا اكتملت عناصر الحصانة الروحية كافأها الله بالتطهير من الرجس والآثام والنجس {إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس .. و يطهركم تطهيرا} ثم تكمل النفس (في سورة الأحزاب نفسها) في سلوك مسلك المسلمين والمؤمنين: {إنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}، وتتتلمذ في مدرسة القنوت والصِّدق والصَّبر والخشوع والصّدقة والصَّوم ودوام الذكر: {والقانتين والقانتات والصَّادقين والصَّادقات والصَّابرين والصَّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصَّائمين والصَّائمات ... والذَّاكرين الله كثيرا والذَّاكرات}.
ويمحِّص الحافظين فروجهم والحافظات: {والحافظين فروجهم والحافظات} حتَّى إذا ما استكمل الأساس وأرسيت القواعد جاء كمال البناء واكتمال حلقة التميز في آية الحجاب (من السورة نفسها) لتكلل الجهود المضنية في بناء النفس والذات وتطهير القلب والجسد وتكون خاتمة المطاف لبلوغ منزلة: {لستن كأحد من النساء} التي لا انتقاص بعدها ولا إيذاء أيّاً كان شكله.
{ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} ، منزلة يقصرها من قصر نظره وضاق فهمه على نساء النبي صلى الله عليه وسلم دون إدراك لمقصود النص القرآني الذي يجمع بين خصوص اللفظ وعموم المعنى وشمول الحكم والتطبيق.
وبهذه النظرة القرآنية فالحجاب ليس زيّاً مظهرياً يخلع أو يلبس أو يتخلى عنه وفق الأهواء أو المناسبات والضغوط مهما عظمت أو اشتدت، فهو هوية المرأة المسلمة وشخصيتها الظاهرة للعلن والملأ، وهو دلالة على خلقها وفكرها وسيرتها. أرادها الله أن تكون جوهرة مكنونه لا تصلها الأيدي ولا تخترقها الأعين ولا تلوكها الألسن، لا يأخذها إلاَّ مَنْ يستحقها بخلقه ودينه بقرارها وقناعتها، لا يلوع قلبها ولا تمتهن عواطفها بكلام المتغزلين والمتفحشين والنخاسين .
هذا هو الحجاب حجاب عن الفاحشة والامتهان لكرامة المرأة، المرأة التي المتهتكون أن تلف في ساقية التلوين، والتصغير والتكبير، والنفخ والتنفيس علها تنال الإعجاب، وما من معجب، وكثير منهن ينتهي بهنَّ الحال إلى الإدمان، أو الانتحار، أو الإصابة بالأمراض النفسية.
هذا هو الحجاب رفع قدر المرأة بفكرها وخلقها وما تحسن، لا يحجبها عن المجتمع بل يزيد انخراطها فيه بثقة وإيجابية دون أن يكون شغلها الشاغل تطلع الآخرين لها ورأيهم فيما ظهر أو بطن، رقَّ أو ثخن، سمن أو نحف منها، فتصبح مؤهلاتها وشخصيتها الفيصل في تقديمها وتقدّمها.
هذا هو الحجاب نظام للحياة بأكملها لا ليوم أو يومين، فهو ديدن عفة واستمرارية طهر، وإنَّما المقصود من تخصيص الأيام تذكر النّعمة والاعتزاز بالهبة والافتخار بالمنزلة ومناصرة أخوات في الدِّين انتقصت أبسط حقوقهن الحياتية في بلاد الغرب.
هذا هو الحجاب كيفما نظرنا إليه باختلاف مجتمعاتنا وثقافاتنا، عربية أو غربية، وجدناه يمثل الهويَّة والحرية الشخصية وحرية الدّين والرَّأي واللباس والاعتقاد وفرضية الدين لأتباع الدين وصلاح المجتمع و حصانة الفرد والأسرة.
هذا هو الحجاب قد يحارب ويضيق على من ترتديه فتوصم بالرَّجعية والتخلف والتأخر، فيأتي اليوم العالمي لنصرة الحجاب ليذكّرها بلسان الرافعي: (ربَّما عابوا السمو بأنَّه قليل، ولكن الخير كذلك، وبأنَّه غريب ولكن الحق كذلك، وبأنَّه محيّر ولكن الحسن كذلك، وبأنَّه كثير التكاليف ولكن الحرية كذلك).