لا يمكن لأيِّ شيءٍ في هذا الكون أن يؤتي أكله ونتاجه بسهولة ويسر، بل يحتاج إلى جهد وعمل حتَّى يتسنى لصاحبه أن يقطف ثمرته وينال فائدته، فكيف إذا كانت هذه الثمرة تنعكس إيجابياً على الأمَّة بكاملها وتنهض بجهودها وتغير أحوالها!
إنَّ من أكثر الأمراض التي تفتك بالنَّاس فتحول بينهم وبين تحقيق الإنجاز هو التشاؤم والإحباط، فكم من النَّاس كانوا على مقربة من تحقيق الإنجاز والوصول إلى القمَّة، إلاَّ أنَّهم انهاروا بسبب الإحباط الذي اعترى نفوسهم، فرأوا المسافة طويلة والإنجاز مستحيل التحقق، مع أنَّه كان يلوح لهم في الأفق، وكان أقرب لهم مما يظنّون.
وكم كان التشاؤم محبطاً لبعض الدُّعاة، فتركوا ساحة العمل، ظانّين أنَّ الأمور قد انتهت وأنَّ الإنجاز بات معدوماً بعد أن كادوا أن يحقّقوا ما ترنوا إليه نفوسهم ودعوتهم.
التشاؤم، مرض فتاك، معدٍ، لا يبرح أن يصيب شخصاً من الأشخاص حتى ينتقل لغيره، فهو عدوى منتشرة بين كلّ الطبقات، وتزداد فاعليته وشدته عند أولئك الذين يحملون المشاريع العظيمة، ويسعون لتحقيق الإنجازات الكبيرة، خصوصاً تلك التي تنهض بالأمَّة، وتأخذ بيد أفرادها لنيل التحرّر واستعادة الحقوق، وتحكيم شريعة الله فيما بينهم.
والتشاؤم هو العدو اللّدود للتميز والنَّجاح، فالنَّاجح لا يدع للتشاؤم طريقاً يسلكه ليؤثر في قراراته، في حين أنَّ ضعاف النفوس، أصحاب الأحلام البسيطة، سرعان ما يستسلموا لنداء التشاؤم، ويرفعوا رايته معلنين عن سيطرة اليأس والإحباط عليهم وترجلهم عن فرس التقدّم والنَّهضة.
اليأس الدعوي ..
ليست ظاهرة التشاؤم واليأس والتي تتعلّق بالدَّعوة والعمل الإسلامي من الأمور التي تحدث بلا سبب، بل لهذه الظاهرة أسبابها ومكوّناتها، وفي الوقت نفسه لها أمور داخلية وخارجية تغذيها وتنميها، ومن هذه العوامل:
1- الهزيمة النفسية الداخلية، إذ يظن البعض أنَّه لن يستطيع هو وإخوانه أن يحقّقوا الإنجاز والغاية، فيستهين بمقدرته ومقدرة إخوانه، ويظن أنَّ الأهداف الموضوعة هي أهداف كبيرة، يعجز هو ومن معه عن القيام بها وأدائها، فتميل نفسه إلى الرُّكون وترك العمل، لأنَّها لن تحقق – بحسب زعمه – أي نتيجة أو هدف. وإذا حقّق هو أو من معه أي إنجاز، فإنه يستهين بها، ويظنها أموراً لا قيمة لها، في حين لو قام بها غيره لرأى فيها إنجازاً غير مسبوق.
2- سوء المقارنة وعدم تقدير الأحوال، فالبعض حينما يرى إنجاز من سبقه من النَّاس يظنُّ أنَّه غير مؤهل لحمل تلك الأمانة التي حملها من قبله، فهؤلاء كانوا على مستوى عالٍ من الكفاءة والتأهيل والقدرة، في حين أنَّه لا يتمتع بأي شيء – تقليلاً لشأنه – ويظن أنَّ مثل هذه الأعمال لا يمكن أن تتحقَّق إلاَّ بهؤلاء فقط، وكأنَّ النِّساء عجزن أن ينجبن من يستطيع القيام بهذه الأمور على أتمّ وجه.
3- المحيط والبيئة، وهي لها دور كبير في تحقيق ظاهرة التشاؤم أو محاربتها، فهناك من النَّاس من يقوم بنشر ظاهرة الإحباط بين النَّاس، وكأنَّ هذا اختصاصه وعمله، الأمر الذي يجعل بعض الأفراد أهدافاً سهلة لنشر هذا المرض بينهم، ممَّا يجعلهم يعتقدون به، بل وينشرونه بين الآخرين.
4- الصُّعوبات والمعوّقات، فالبعض من الدُّعاة قد يستسلم حينما يجد صعوبات تواجه دعوته ومشروعه، سواء أكانت عراقيل طبيعية نابعة من ذات العمل، أم أخرى صادرة عمَّن يعادون الدَّعوات ويحاربونها، فيظن أنَّ نتائج دعوته لن ترى النور، وأنَّها ستجهض لا محالة، وسينطفئ نورها وتغيب شمسها عاجلاً أم آجلاً.
5- التعجل في النتائج، فالبعض يريد أن يرى نتائج دعوته بشكل سريع، وكأنَّها لا تحتاج إلى وقت لتتبلور في نفوس النَّاس، وتنمو فيهم، ليقتنع بها المدعوون، وهذا سرعان ما يكون عاملاً من عوامل التثبيط داخل الصف المسلم، أو يترك تلك الدعوة لاستحالة تحقيق النتائج، أو يسلك درباً يتسم بالعاطفية الجيَّاشة دون إعمال لدور العقل الحكيم المتزن، مما يزيد الطين بِلَّة، ويناقض ما كان يريد من تحقيق الإنجاز والتغيير.
إنَّ الدعوات الحيَّة، والمشاريع النهضوية، تتسامى وتترفع عن النظر لمثل هذه المعوّقات. ولو كان كلُّ أمر يتوقف عند ما يعيقه، لما أنجز شيء صغير كان أم كبير في حياتنا ولما ظهر العظماء والقادة الكبار
التشخيص والعلاج
ليس التشاؤم الدَّعوي داء بسيط، يمكن التعايش معه، فلا يمكن لدعوة أن تحمل بذور فنائها في ذاتها، بل إنَّ الدعوات الحيَّة، والمشاريع النهضوية، تتسامى وتترفع عن النظر لمثل هذه المعوّقات. ولو كان كلُّ أمر يتوقف عند ما يعيقه، لما أنجز شيء صغير كان أم كبير في حياتنا ولما ظهر العظماء والقادة الكبار.
إنَّ العظماء والقادة، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من المكانة والرفعة، إلاَّ عندما جعلوا هاماتهم إلى السَّماء مرفوعة، وآمالهم إلى أعلى غاية مقصودة، ومعوّقاتهم مهما كانت ملغية مرفوضة.
والتاريخ يضرب لنا أروع الأمثلة على أولئك الذين حاربوا الفشل والإحباط، لأنَّهم يعلمون أنَّه لا يطلب منهم إلاَّ العمل، ولا يفكّرون في النتائج، لأنَّ الله يتولاها برعايته.
وبمقدار ما كان المرء مخلصاً في عمله، متقناً متفانياً في أدائه، كانت أعماله مفضية إلى نتائجها بشكل أكبر وأعظم.
ولا أدلَّ على محاربة اليأس من فعل الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ففي أشد ظروف الدَّعوة التي تمرّ بها، وفي ضيق الغار وظلمته، وحصار القريب وعداوته، يبشِّر أبا بكر رضي الله عنه بالنصر والأمل فيقول له: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
وفي ظل الحروب والحصار، وتكالب الأعداء، يبشِّر النَّاس ويقتل روح التشاؤم واليأس فيهم، فيبشرهم بفتح الشام وبلاد فارس، وبالنَّصر والتمكين، فتنعكس تلك الروح على الصحابة بشكل إيجابي، مما يدفعهم إلى الثبات والتحمل، والمصابرة والمجاهدة، للوصول إلى الهدف الأسمى، فيمكِّن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
إنَّ المتشائمين لو نظروا كم قطعوا في مسيرة تحقيق الإنجاز والأهداف، ولو نظروا كم عانى النَّاجحون في مسيرتهم من العوائق والصِّعاب، لهانت عليهم مشاكلهم ولحُلَّت كل الأمور التي تعترض لهم وتجعل نفوسهم تفكر بطريقة مضادة لما كانت عليه في السابق.
إنَّ علاج هذا الدَّاء يكمن في أمور كثيرة .. منها:
1- الثِّقة بنصر الله تعالى، فالله ينصر من ينصره، ولا ييأس من نصر الله وروحه إلاَّ القوم الكافرون، ومن كان مخلصاً متفانياً لن ينال إلاَّ الإنجاز. والأهم من ذلك أن يوقن الدَّاعية أنَّه لا يعمل للدنيا، بقدر ما يعمل للآخرة، فكم من النَّاس مات قبل أن يمكّن له في دعوته، وكم من الصَّحابة عانوا وقضوا نحبهم حتَّى يصير الإسلام عزيزاً، ويدخل النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم مكَّة فاتحاً مظفّراً، بعد أن خرج منها مطارداً متخفّياً.
2- الثِّقة بالنَّفس وبمن حوله من الإخوة، فلا يصح للداعية أن يستخّف بما يمتلك من قدرات، وما يمتلكه إخوانه مجتمعون، بل الأصل في المرء أن يقوم بالرقي بنفسه، وزيادة التأهيل لما يملكه من كفاءات وقدرات، فليس نقد الذات بهذه الطريقة، والنَّظر إليها بتشاؤم وإحباط يجلب أي نتيجة، وإنما الأصل أن النقد إن وجد يكون لتطوير الذات وليس لتهميشها والابتعاد عن مواطن العمل.
إن الدعوات الحقّة الصحيحة، لابد وأن تتعرض لكثير من العراقيل، لأنها لا تقبل المساومة والتفاوض على ثوابتها، وإن ما تتعرض له الدعوات لابد وأن يكون وقوداً ليلهب الدعوة إضاءة وتوهجاً، والصبر على ما تتعرض له سيؤدي بلا شك إلى انتصار الدعوة وانتشار نورها.
3- عدم السَّماح للمثبطين والمرجفين بالنيل من العزائم والهمم، فما يبثه هؤلاء عبارة عن أمراض تؤذي كلّ داعية مخلص، وكل شخص طموح، والاستماع لهؤلاء خطر على الدّعوة وأفرادها وفكرتها. ولا يصح للدَّاعية أن يجعل أذنه مفتوحة لاستقبال كلّ كلمة تؤدّي بعمله إلى التقهقر والتراجع.
4- عدم جعل الصُّعوبات والمعوقات أدوات لتحقيق التشاؤم والإحباط، فالمعلوم أن الدعوات الحقّة الصحيحة، لابد وأن تتعرض لكثير من العراقيل، لأنها لا تقبل المساومة والتفاوض على ثوابتها، وإن ما تتعرض له الدعوات لابد وأن يكون وقوداً ليلهب الدعوة إضاءة وتوهجاً، والصبر على ما تتعرض له سيؤدي بلا شك إلى انتصار الدعوة وانتشار نورها. {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}.
5- التَّأني وعدم استعجال النتائج، فلا يمكن أن تحصّل النتائج بيوم وليلة، ولا يمكن أن يتحقق التغيير بفترة وجيزة، فالتأني والصَّبر يؤدِّيان في النِّهاية إلى إتقان الإنجاز واستمرار آثاره، ولهذا لا يكتفي المرء بالعاطفة فقط، بل بحاجة إلى يحكم عاطفته إلى منطق العقل السليم الذي يدرس الظروف والوقائع، وفق رؤية واضحة ليؤدّي إلى قرارات سليمة معمّقة.