عبادة التأمل والتفكر والتدبر

الرئيسية » بأقلامكم » عبادة التأمل والتفكر والتدبر
alt

سنتناول في هذا البحث ثلاثة جوانب:
التعريف - طرق معرفة الله - مظاهر وفوائد التأمل والتفكر.
هي من أرقِّ العبادات وأجملها، ذات قيمة علمية عالية وراقية.. فهي صفاءٌ للنفس والروح والقلب.. تشعرك بجلال الله وعظمته وعزّته.. فالتفكر هو حب لله.. هو اتصال مباشر بين العبد وربه، وشرط هذه العبادة ألاّ تصبح عادة.. فهناك من الناس من يألف خلق الله وآياته في الكون فتصبح هذه العبادة عنده عادة.
فتعالوا معنا إذن لنركب زورق التفكر فنخوضُ عُبابَ البحر لنحظى بنفيس ذخائر هذه العبادة، ونستخرج لآلئها البراقة، ونتعرف على قيمتها ومليح عِبرها، وقبلها سنحلق قليلًا في فضاء لغتنا الحبيبة لنتعرف على الفرق بين كل من التأمل والتفكر والتدبر، هل لكل منها معنى أم أنها كلمات مترادفة لمعنىً واحد؟؟

أولاً:
التعريف:
فالتأمل لغة من مادة (أَ مَ ل) التي تدل على التثبت والانتظار.
أما التفكر فمأخوذ من مادة (ف ك ر) التي تدل على تردد القلب في الشيء.
التدبر من مادة (دَ بَ رَ) التي يقصد بها النظر في عواقب الأمور.
أما التعريف الاصطلاحي فالتأمل: تدقيق النظر في الكائنات أو الأشياء بغرض الاتعاظ والتذكر بمعنى إدامة النظر والتثبت واستمراريته.. فالنظرة الأولى ليست تأملاً...
التفكر: جولان الفكرة.. ولا يحصل ذلك إلاّ بما يكون له صورة متخيلة في القلب أو العقل يدور حولها التفكر.. ولا يُشترط فيها النظر كالتأمل، رُوي قديماً (تفكروا في آلاء الله.. ولا تتفكروا في الله).
التدبر: هو النظر في عواقب الأمور، وما تصير إليه الأشياء، أي أن تتجاوز الحاضر إلى المستقبل.. لأن التدبر يعني التفكر في عواقب أو دُبر الأمور..
وخلاصة القول إن جميعها عبادة تفضي إلى معرفة الله عز وجل بالعقل والقلب وحبه وخشيته، فعندما نعرف الله نتجه إلى تطبيق شرعه عز وجل ولا نعصيه، فبالكون نعرف الله، وبالشرع نعبده، فإن عرفت الآمر تفانيت في تطبيق الأمر، فيجب إذن كما ذكر د. راتب النابلسي أن تتحول نظرتنا من الظاهر المشهود إلى الباطن المحجوب، ومن معرفة المخلوق إلى معرفة الخالق الذي أنشأه وأبدع له النظام الذي يسير عليه "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلكٍ يسبحون..".

ثانياً: طرق معرفة الله تعالى..
هناك ثلاث طرائق لمعرفة الله عز وجل:
1) خلقِه وآياته في الكون.
2) أفعاله جلّت قدرته.
3) كلامه عز وجل.
وسنتناول كل نقطة بالشرح الموجز على حده..
1) خلقه وآياته في الكون:
قال تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولى الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار".
إذن نعرف الله من خلال التفكر في آيات الله في الكون، وذلك دليل على رجاحة العقل، وكما رُوي (أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً).
ماذا نتأمل.. وفيم نتفكر؟؟ في مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح (السموات، الأرض، الكواكب، المجرات، البحار، الأنهار (ما السماء الأولى في السماء الثانية إلاّ كحبة في فلاة)، نتفكر في الأسماك، الأطيار، النباتات، الحيوانات.."أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت"، نتفكر في جسم الإنسان وحواسه وعقله وقلبه.. قدمه ورجله، ذراعه وشعره، فشَعر الإنسان يقترب من 300.000 ألف شعرة ولكل شعرة وريداً وشرياناً وعضلة، وغدة دهنية وغدة صبغية.
في شبكة العين بالميليمتر منها يوجد (مائة مليون مستقبل ضوئي) وذلك من أجل دقة الرؤية، في حين أنهم اخترعوا أحدث آلة تصوير رقمية احترافية بالميليمتر المربع فيها عشرة آلاف مستقبل ضوئي فقط ولم يستطيعوا أكثر من ذلك.. فسبحان الخالق.
ولو عرجنا قليلاً على المخلوقات الدقيقة مثلاً لوجدنا أنّ للنمل 9000 آلاف نوع بعضه يعيش مدني وبعضه ريفي، منه من يكسب رزقه بالتعب وآخر بالنهب، وللنمل أعمال مختلفة منها قطاع تربية وآخر للتنظيف وثالث لدفن الموتى وقطاع يمثل جيش حماية وغيره في قطاع الزراعة.. إلخ.
ثم أن النمل يأخذ ويعطي.. وهو اجتماعي بطبعه لا يستطيع أن يعيش لوحده.. وقد ورد ذِكْره في القُرآنِ الكريمِ عندما حذّرت نملة قومها من سليمان وجنوده أنِ ادخلوا بيوتكم مما يدلنا أن للنمل قيادة أيضاً.
ومن الحشرات الدقيقة التي وردت في القرآن الكريم وفيها تكمن أسرار إبداع الله (البعوضة).. تلك التي تلازم الإنسان أينما حَلّ وارتحل، "إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.." لكم أن تتخيلوا هذا المخلوق الصغير الدقيق جداً كم فيه من بديع خلق الله، فللبعوضة مائة عين وفي فمها 48 سن ولها 3 قلوب قلب مركزي وقلب لكل جناح.. ولديها جهاز استقبال حراري ترى به الأشياء فحساسية هذا الجهاز 1/1000 درجة مئوية ولديها جهاز لتخدير الإنسان قبل لسعه فلا يشعر بالألم إلاّ بعد امتصاص الدم.. ومن المدهش أيضاً أنها تمتلك جهاز تمييع الدم لأنّ لزوجة الدم لا تسمح له أن يمر عبر خرطومها الدقيق، ولها أيضاً 6 سكاكين، أربعة منها تحدث جرحاً مُربعاً وسكينان تلتئمان على شكل أنبوب تمتص به الدم بعد تمييعه وللمعلومة الأنثى فقط هي التي تمتص الدم لتغذي بويضاتها أمَّا الذكر فيتغذى على خلاصة الأزهار، أيضاً لها محاجم إذا وقفت على سطح أملس.. ومخالب إذا وقفت على سطح خشن.
قس على ذلك ما في هذا الكون من عجائب خلق الله وقدرته عزَّ وجلَّ في المخلوقات الدقيقة أو العظيمة كالكواكب والمجرات وغيرها.. فسبحانك ربي ما أعظم شأنك.
2) التفكر والتدبر في أفعال الله في الكون (من نِعَم أو نِقم):
لله أفعال في الكون..(زلازل، براكين، فيضانات، ريح صرصر،أمطار، خسوف، كسوف، خسف وهلاك، أعاصير.. وما إلى ذلك..) قال تعالى: " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
فكما أمرت أن أتفكر في خلق السموات والأرض أمرني عز وجل أن أتفكر وأتدبر في سنن الله في الأرض وأستنبط منها العظات والعبر، فمن الحكمة أن أبدأ أولاً بالتفكر في الكون ومخلوقات الله فيه لأتعرف على الله وبديع صنعه فأزداد حباً له وخشيةً منه وأثني عليه فيعطيني التأمل والتفكر في خلقه بعد ذلك رؤيةً خاصة لفهم أفعاله جلّ جلاله.
3) التفكر والتدبر في كلام الله تعالى (القرآن الكريم):
كيف يكون ذلك.. ورد في الأثر عن التفكر في آيات القرآن الكريم بأن نتلوه حق تلاوته، ومن أدق ما قاله المفسرون في حق تلاوته هو:
o أن تقرأه قراءةً صحيحة وفق قواعد اللغة العربية.
o أن تقرأه قراءة مجودة وفق أحكام التجويد.
o أن تعيه أي تفهم معانيه وتفسير آياته.
o أن تتدبره.. ثم.. تطبقه (أي تطبق أحكامه).
فما هو تدبر القرآن؟؟ هو أن تسقط آياته على واقعك وعلى نفسك فتسأل نفسك دائماً أين أنت من هذه الآية؟؟ هل أنت مطبق لها؟ هل تشملك؟ هل تعنيك؟ مثلاً "خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً" هل أنا منهم؟؟
"إِنَّ الذَّينَ قَالُوا رَبُنَا الله ثَمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا" هل أنا من هؤلاء؟؟..
ثم تطبيقه.. فهل أنا أطبق أحكام القرآن الكريم؟ هل أقف عند أوامره فأأتمر بها وعند نواهيه فأنتهي؟؟
ورد في الأثر "رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه" يقرأه ويحفظه ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار، ثم يبطش ويلعن ويكذب ويخون وينافق ويرائي و.. و.. و.. ، إذن يجب أن تمرر كل آية نقرؤها أو نسمعها على العقل والقلب، فالعقل يفهما والقلب يشعر بها فنسقط آيات القرآن على واقعنا وحياتنا وأنفسنا.. وإلاَّ فما أحسَنَّا تدبر القرآن الكريم.

ثالثاً: مظاهر وفوائد التأمل والتدبر:
1) يعرفني بالله عز وجل وقدرته ورحمته وجبروته فأحبه وأخشاه ولكن قد يراود البعض سؤالاً منطقياً فيقول لنا كيف إذن ببعض الملحدين والكفار ممن يزداد كفراً وإلحاداً كلما تأمل خلق الله وتعرف أكثر على الكون؟!.
نجيب بقولنا أنهم هم من اختار هذا الطريق فقد أنعم الله عليه بعقل يفكر ويختار فهم من قال فيهم عز وجل: "فاستحبوا العمى على الهدى" وقوله عز وجل: "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون"، والعياذ بالله.
2) يعرفني بمنهج الله وشرعه فأتبع أوامره وأطبق أحكامه.
3) خير معين على طاعة الله فإن أطعت الله تعالى فأنا في سلام مع الله وفي سلام مع نفسي وفي سلام مع الناس.
4) تحول الإيمان من فطري تصديقي إلى إيمان تحقيقي يجعل الإنسان عابداً قادراً على مواجهة الأهواء والفتن.
5) دليل على رجاحة العقل واستخدام العقل فيما ينفع فكما ورد (أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً) ومن يحب الله يَسبَح في ملكوته ليتصل به أكثر فأكثر.
6) يمهد لنا الطريق للاكتشاف والاختراع والابتكار والإبداع في كافة مجالات الحياة فديننا عقل يتوافق مع العلم.
7) بعض أفعال الله في الكون تذكرنا بأهوال يوم القيامة، فالتدبر والتفكر فيها تجعل قلوبنا زاهدة في هذه الدنيا وتربطنا أكثر بالآخرة.
8) من أهم الظواهر أن هذه العبادة لها ارتباط وشيج وعظيم بمكارم الأخلاق، وقد يسأل سائل ما علاقة التفكر والتأمل بمكارم الأخلاق؟!!.. فنقول له: إن الإنسان حينما يعرف الله من خلال آياته في الكون، يبحث عن منهجه.. ومنهج الله أخلاقي.. فالقرآن الكريم أمر بالصدق والأمانة والعفة والإصلاح وأداء الحقوق، إذن حينما أتعرف على الله أتواضع وأخلص وأتعامل برفق وأتعاون، أحفظ لساني، أصلح بين الناس..إلخ.
فديننا دين عقل وعلم وخلق ومشاعر، دين روحانية ورِقًّة، دين خير فالخير مطلق والشر نسبي في حياتنا، إذن علينا دائماً استثمار جانب الخير واستئصال الشر من جذوره، ذلك هو ديننا الإسلامي الراقي.

وختاماً..
نسألُ الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يغرس في قلوبنا حب هذه العبادة الراقية السامية، فقد قيل من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو.

بقلم: أم عمر جمال

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …