منذ أن أسَّس النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مسجده الأوَّل في المدينة المنوّرة، أصبحت المساجد والبيوت في العالم الإسلامي مناراً ومركزاً لتلقي العلم النَّافع، ومن المساجد التي كان لها إسهامٌ بارزٌ في إنجاح العملية التربوية والتعليمية؛ مسجد بني أمية الكبير بدمشق، الذي أسَّسه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك؛ إذ تشكّل كل زاوية من زواياه حلقة من حلقات العلم يديرها ويشرف عليها كبار العلماء والأئمَّة العارفين، ولكنَّ الدروس التي كانت تدار تحت ((قبَّة النسر)) لها صيتٌ ذائع وشهرةٌ واسعةٌ في العالم الإسلامي، فما قصة هذه القبَّة ؟ وما قصة دروس العلم فيها ؟
لبنائها قصَّة ..
قبَّة النِّسر في الجامع الأموي في دمشق هي من منجزات الوليد بن عبد الملك، وكانت قد سقطت بعد بنائها لأوَّل مرَّة، وقد أحزن سقوطها الوليد، فجاءه بنّاء شامي واشترط على الوليد أن لا يعمل فيها أحد غيره، فكان له ذلك، فوضع الأساسات وغاب بعدها عاماً كاملاً، وعاد إليها فوجدها قد نزلت قليلاً، فقال للوليد من هنا كان سقوطها فابنه الآن فإنها لا تهوي إن شاء الله، وتمَّ البناء واستقرت.
قبَّة النسر عبر التاريخ ..
جدّدت هذه القبَّة في عهد نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي عام 1075م، وقام صلاح الدين الأيوبي بتجديد ركنين منها عام 1179م.
في عام 1201 تشقَّقت القبَّة إثر الزلزال المدمّر الذي ضرب دمشق آنذاك، وقيل: إنَّها سقطت على النَّاس.
وإثر حريق عام 1479م، الذي بدأ في الأسواق المحيطة للجامع، والذي أتى على الحرم انهارت القبَّة وأعيد بناؤها.
وقد أعيد إعمارها بعد الحريق الكبير عام 1893م.
وصفها ..
ترتفع قبة النسر عن أرض صحن الجامع 45 متراً ويبلغ قطرها 16 متراً وقد وصفها ابن جبير قائلاً: (أعظم ما في هذا البناء قبَّة الرَّصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء عظيمة الاستدارة، ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل كأنها معلقة من الجو...).
ولتسمّيتها سبب ..
أمَّا عن سبب تسميتها بقبَّة النسر، فيقول ابنُ جُبير في كتابه الشَّهير ((أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)): (... يشبهها النَّاس بنسر طائر، كأنَّ القبَّة رأسه والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين والنصف الثاني عن شمال جناحاه...).
ويذكر أنَّ العرب تطلق على الحرم اسم النّسر، القبَّة رأسه والرّواق القاطع جسمه، والأروقة عن يمينه وشماله جناحاه .
دروس العلم تحت قبَّة النسر ...
اشتهرت قبَّة النسر في أقطار العالم الإسلامي بالدروس التي كانت تلقى تحتها عبر التاريخ؛ فقد ألَّف الشيخ عبد الرَّزاق بن حسن البيطار رسالة بعنوان: ((نتيجة الفكر فيمن درس تحت قبَّة النّسر)) ذكر فيها من درَّس تحت قبَّة من أعيان العلماء الأماثل، والمشايخ الأفاضل، وأشار في مطلعها إلى أنَّه كان كثير التشوق إلى معرفة أول من ابتدأ التدريس في هذا المكان، كما أنه ذكر أول من أمر بالتدريس فيها، وجعلها وظيفة رسمية، ثم سرد بعد ذلك العلماء الذين قاموا بالتدريس في هذا المحل، وترجم لكل واحد منهم ترجمة وجيزة، ومتى تولى التدريس في هذه البقعة، وذكر تواريخ وفاتهم، فجاءت كما أشار إلى ذلك مؤلفها نبذة تسر الناظرين، وتقر بها أعين القارئين، ثم هي بعد ذلك تعد من المحاسن التي يذكر بها هذا الجامع وأهل بلده.
فمن هؤلاء العلماء الإمام أبو حامد الغزالي ..الإمام شرف الدين النووي .. المحدِّث بدر الدين الحسني .. العلامة محمَّد الميداني .. والشيخ نجم الدين الغزّي .. والشيخ البطنيني .. والعلامة العجلوني .. والعلامة الداغستاني .. والمحدِّث الكزبري...
وفي عصرنا الحديث تستمر دروس العلم تحت هذه القبَّة، فكان مجلس الشيخ محمد صالح الفرفور، والشيخ عبد الرّزاق الحلبي ..
واليوم .. يقام درس أسبوعي عقب صلاة الجمعة لقراءة وشرح كتاب ((صحيح البخاري))، للأستاذ الدكتور محمَّد عجاج الخطيب حفظه الله.